منظمة الصحة العالمية (WHO) هي إحدى وكالات الأمم المتحدة المتخصصة، وقد تأسست رسميًا في 7 أبريل 1948 لتكون المرجعية العليا في مجال الصحة على مستوى العالم. جاء إنشاؤها بعد الحرب العالمية الثانية، في وقت كان المجتمع الدولي يبحث عن مؤسسات قوية قادرة على تنسيق الجهود بين الدول لمنع انتشار الأوبئة ومواجهة التحديات الصحية العابرة للحدود. ومنذ ذلك الحين، ارتبط اسم المنظمة بحملات ضخمة تركت أثرًا حقيقيًا في حياة البشر.

من أبرز إنجازات المنظمة القضاء على مرض الجدري في السبعينيات، وهو إنجاز غير مسبوق في تاريخ الطب، إضافة إلى جهودها في خفض إصابات شلل الأطفال إلى مستويات قياسية بفضل برامج التلقيح العالمية. كذلك، كان للمنظمة دور محوري في إدارة الاستجابات للأوبئة، من فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) وصولًا إلى جائحة كوفيد-19، حيث قادت التنسيق الدولي في مجالات البحث والإمدادات الطبية والتطعيم.

لكن نشاط المنظمة لم يقتصر على الأمراض المعدية. فقد تبنت WHO منذ وقت مبكر قضية مكافحة الأمراض المزمنة مثل السرطان وأمراض القلب، والتي يُعتبر التبغ المسبب الأول لها. من هنا، أصبحت مكافحة التدخين واحدة من أهم أولويات المنظمة، وهو ما فتح مواجهة طويلة ومعقدة مع شركات التبغ العالمية، وأدى لاحقًا إلى إطلاق معاهدة دولية غير مسبوقة في هذا المجال.

بداية التبغ : من الأبحاث العلمية إلى المعاهدة الدولية

خطورة التدخين في ستينيات القرن العشرينبدأت الأدلة العلمية حول خطورة التدخين تتراكم منذ ستينيات القرن العشرين، حيث أكدت دراسات متزايدة العلاقة المباشرة بين استهلاك التبغ وبين الإصابة بالسرطان وأمراض الجهاز التنفسي والقلب. ومع تزايد هذه المعطيات، تصاعد الضغط على الحكومات لاتخاذ إجراءات أكثر صرامة. منظمة الصحة العالمية كانت في طليعة هذه الجهود، إذ أصدرت تقارير دورية وبيانات قوية تحذر من خطورة التدخين وتحث الدول على سن قوانين رادعة.

تطورت هذه الجهود لتبلغ ذروتها في العام 2005 مع دخول اتفاقية الإطار لمكافحة التبغ (FCTC) حيز التنفيذ. هذه المعاهدة، التي وقّعتها أكثر من 180 دولة، اعتُبرت نقطة تحول تاريخية، لأنها كانت أول اتفاقية صحية دولية ملزمة قانونيًا. نصت الاتفاقية على مجموعة من الإجراءات الأساسية: فرض الضرائب المرتفعة على منتجات التبغ، حظر الإعلانات والدعاية، إدراج تحذيرات صحية بارزة على العلب، وحظر التدخين في الأماكن العامة. وقد شكلت هذه التدابير نموذجًا عالميًا ألزم الحكومات بتبني سياسات أكثر صرامة في مواجهة شركات التبغ.

بفضل هذه الاتفاقية، اكتسبت WHO سلطة سياسية ومعنوية غير مسبوقة. لكنها في الوقت نفسه دخلت في مواجهة مفتوحة مع شركات التبغ العملاقة، التي لم تتوقف عن محاولة الالتفاف على القوانين أو الضغط على الحكومات لتخفيف القيود. هذا الصراع المستمر أظهر قوة المنظمة، لكنه كشف أيضًا عن هشاشتها أمام الضغوط السياسية والاقتصادية، خصوصًا أن ميزانيتها تعتمد بدرجة كبيرة على مساهمات الدول المانحة.

ظهور السجائر الإلكترونية: تحدٍّ جديد للمنظمة

في مطلع الألفية الثالثة، ظهر ابتكار جديد قلب موازين المعركة: السجائر الإلكترونية. تم تطوير هذه الأجهزة أولًا في الصين، ثم سرعان ما انتشرت في الأسواق العالمية، حيث رُوّج لها كبديل أقل ضررًا من السجائر التقليدية، بل وكأداة فعالة لمساعدة المدخنين على الإقلاع عن التدخين. يعتمد هذا الابتكار على تسخين سائل يحتوي على النيكوتين وإنتاج بخار يُستنشق بدلًا من دخان الاحتراق، ما يقلل بدرجة كبيرة من المواد المسرطنة والسموم المرتبطة بالتبغ المحترق.

كان من المفترض أن يشكل هذا التطور فرصة تاريخية لتقليل الضرر وإنقاذ ملايين الأرواح، خصوصًا أن معظم المدخنين يجدون صعوبة كبيرة في الإقلاع باستخدام الوسائل التقليدية. غير أن منظمة الصحة العالمية لم تنظر إلى الفيبنج من هذه الزاوية. منذ تقاريرها الأولى حول الموضوع، اختارت المنظمة لهجة تحذيرية مشددة، محذرة من أن هذه المنتجات قد تجذب الشباب وغير المدخنين، وأنها قد تعيد تطبيع التدخين بعد عقود من التراجع.

هذا الموقف المتشدد أثار انتقادات واسعة، لأنه تجاهل الأدلة المتزايدة التي تشير إلى أن السجائر الإلكترونية أقل ضررًا بكثير من التدخين، وأنها تساعد الملايين على التحول بعيدًا عن السجائر. وبدلًا من أن تنتهج WHO مقاربة متوازنة تراعي المخاطر والفوائد، تبنت خطابًا يكاد يقتصر على التحذير والضغط من أجل فرض قيود صارمة، وهو ما انعكس مباشرة على سياسات العديد من الدول التي فضلت اتباع المنظمة بشكل أعمى بدل تقييم الأدلة بشكل مستقل.

تمويل مشبوه وبيروقراطية مثيرة للجدل

لا يقتصر الجدل حول مواقف WHO على الجانب العلمي وحده، بل يمتد أيضًا إلى طريقة إدارة التمويل داخل المنظمة. فميزانية WHO تأتي من مصدرين: مساهمات إلزامية من الدول الأعضاء، ومساهمات طوعية من الحكومات والمؤسسات الخاصة. الجزء الطوعي يُمثل غالبًا النسبة الأكبر، ما يفتح الباب أمام تأثيرات سياسية وأحيانًا مصالح اقتصادية قد لا تكون متوافقة تمامًا مع الحياد العلمي.

في هذا السياق، نشرنا تقريرًا مثيرًا حول ميزانية أمانة مكافحة التبغ للفترة 2026–2027. ووفقًا للتقرير، فإن الميزانية الكلية بلغت نحو 20.1 مليون دولار، لكن المثير أن 43٪ من هذه الميزانية مخصصة لرواتب 17 موظفًا فقط. هذا يعني أن متوسط راتب الموظف الواحد يتجاوز 250 ألف دولار سنويًا، بينما يحصل المدير على نحو 300 ألف دولار. الأكثر إثارة للغرابة أن بعض الموظفين في رتب أدنى يتقاضون أكثر من زملائهم في رتب أعلى، ما يشير إلى خلل واضح في هيكل الرواتب.

هذه الأرقام تثير تساؤلات جدية حول أولويات المنظمة. فإذا كانت الحرب على التبغ قضية عالمية تتطلب تمويل برامج ميدانية وتوعية واسعة النطاق، فكيف يُبرر تخصيص ما يقارب نصف الميزانية للرواتب الإدارية؟ هذه الممارسات تغذي الاتهامات القديمة الموجهة للمنظمة بأنها بيروقراطية ثقيلة تستهلك الموارد بدل توجيهها نحو تحقيق نتائج ملموسة. والأسوأ أن هذا الوضع يضعف ثقة الرأي العام بالمنظمة، ويجعل من السهل اتهامها بأنها تتأثر بالسياسة أكثر من العلم.

بريطانيا: الرهان على تقليل الضرر

المملكة المتحدة تُعد أبرز مثال على دولة تبنّت نهجًا مغايرًا تمامًا لموقف منظمة الصحة العالمية. فقد قررت الحكومة البريطانية منذ سنوات اعتماد استراتيجية تقليل الضرر، معتبرة أن السجائر الإلكترونية وسيلة فعالة لإنقاذ الأرواح. وقد أصدرت وكالة الصحة العامة البريطانية (Public Health England) تقارير علمية أكدت أن الفيب أقل ضررًا بنسبة 95٪ مقارنة بالتدخين التقليدي.

لم تكتف بريطانيا بالتصريحات، بل دمجت الفيبنج في برامج الإقلاع الرسمية. في المستشفيات والعيادات، يمكن للمدخنين الحصول على السجائر الإلكترونية كجزء من خطة علاجية مدعومة. حتى على مستوى السياسات، أطلقت الحكومة حملات تشجع المدخنين على التحول إلى الفيب بدلًا من الاستمرار في التدخين. وقد انعكس هذا النهج على الأرقام، حيث شهدت بريطانيا تراجعًا ملحوظًا في معدلات التدخين على مدى العقد الأخير.

هذا النموذج يطرح سؤالًا جوهريًا: إذا كانت دولة كبرى مثل بريطانيا، مدعومة بأدلة علمية من مؤسساتها الصحية، قد حققت نجاحًا باستخدام الفيب كأداة لتقليل الضرر، فلماذا لا تزال WHO تتبنى خطابًا متشددًا؟ التناقض هنا يُظهر أن مواقف المنظمة ليست بالضرورة انعكاسًا مباشرًا للعلم، بل قد تكون متأثرة بعوامل أخرى، سواء سياسية أو بيروقراطية.

نيوزيلندا: نحو جيل خالٍ من التدخين

نيوزيلندا بدورها اعتمدت سياسة طموحة تهدف إلى أن تكون خالية من التدخين بحلول عام 2025. لتحقيق هذا الهدف، لم تكتف الحكومة بحظر الإعلانات وفرض الضرائب، بل اعتمدت مقاربة شاملة شملت دعم الفيبنج كبديل أقل ضررًا.

في القوانين النيوزيلندية، يُسمح ببيع السجائر الإلكترونية بشكل قانوني، مع فرض قيود صارمة على البيع للقاصرين، وتنظيم مستويات النيكوتين. كما أطلقت الحكومة برامج توعية تُشجع المدخنين على استخدام الفيب كخطوة أولى نحو الإقلاع. هذه السياسة أدت إلى تراجع سريع في معدلات التدخين، حتى باتت نيوزيلندا واحدة من أكثر الدول تقدمًا في هذا المجال.

المفارقة أن نجاح نيوزيلندا في خفض نسب التدخين يعارض مباشرة خطاب WHO المتشدد. هنا، تظهر بوضوح إشكالية الموقف الأممي: بدلًا من الاستفادة من النجاحات الوطنية وتعميمها، يتمسك مسؤولو WHO بخطاب حذر يتجاهل تجارب الدول التي أثبتت فعالية مقاربات أكثر مرونة.

الإمارات والسعودية: تنظيم بدل الحظر

في منطقة الخليج، برزت الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية كمثال على دول اختارت مسار التنظيم بدل المنع. ففي عام 2019، سمحت الإمارات ببيع السجائر الإلكترونية بشكل قانوني، لكنها وضعت لوائح صارمة تحدد معايير السلامة وجودة المنتجات. هذا القرار جاء بعد سنوات من الحظر، لكنه عكس تحولًا في التفكير نحو إدارة السوق بدل تركها للفوضى والتهريب.

الخطوة الأهم جاءت في مايو 2025، حين أقر مجلس الوزراء الإماراتي لائحة جديدة تنظم أكياس النيكوتين الخالية من التبغ، معتبرًا ذلك جزءًا من استراتيجية وطنية متكاملة لتقليل أضرار التدخين. وبهذا، أصبحت الإمارات واحدة من الدول الرائدة إقليميًا في إدماج منتجات بدائل النيكوتين ضمن قوانينها الرسمية.

هذا النموذج يعكس تطبيق نظام سياسي وصحي واقعي في آن واحد: بدلًا من مواجهة السوق السوداء أو ترك المستهلكين بلا بدائل، فضّلت الدولة تقنين المنتجات ومراقبتها. وهي خطوة قد تُثير الجدل، لكنها أثبتت أن مقاربة أكثر واقعية قد تكون أكثر فعالية من الحظر الشامل.

قطر: الحذر المفرط

على الجانب الآخر، تبنّت قطر نهجًا أكثر تحفظًا متأثرًا بخطاب WHO. حيث منعت رسميًا ببيع منتجات الفيب، وفرضت غرامات مرتفعة جدًا. إضافة إلى ذلك، فُرضت قيود صارمة على الإعلانات والتسويق، ما حدّ من انتشار المنتجات بشكل قانوني.

النتيجة كانت عكسية: توسعت السوق السوداء بشكل كبير، وأصبح الكثير من المستهلكين يشترون منتجات غير مراقبة، ما يعرّضهم لمخاطر إضافية. هذه التجربة تُظهر بوضوح إشكالية السياسات التي تركز على الحظر والتضييق بدلًا من التوازن والتنظيم. فبينما تهدف الحكومة إلى حماية الصحة العامة، فإن النتيجة على أرض الواقع قد تكون مضادة تمامًا.

هذه الحالة تمثل انعكاسًا مباشرًا لموقف منظمة الصحة العالمية. فحين تتبنى الحكومات خطاب المنظمة دون تكييفه مع واقعها المحلي، قد تجد نفسها في مواجهة عواقب لم تكن في الحسبان، مثل تنامي السوق السوداء أو استمرار معدلات التدخين بلا تغيير يذكر.

تحيّزات سياسية وغياب الشفافية

جميع هذه الأمثلة تكشف عن نقطة واحدة: مواقف منظمة الصحة العالمية ليست محايدة بالكامل، بل تتأثر بالسياسة والتمويل. الرواتب المرتفعة، والبيروقراطية، والخطاب المتشدد غير المتوازن كلها عناصر تجعل من الضروري إعادة التفكير في كيفية صياغة السياسات داخل المنظمة.

المشكلة لا تكمن في نوايا المنظمة، بل في طريقة عملها. إذ يُفترض أن تكون قراراتها مبنية على الأبحاث والأدلة العلمية، لكنها أحيانًا تبدو انعكاسًا لمعادلات سياسية أو لضغوط خارجية. وهذا ما يجعل الثقة في توصياتها موضع تساؤل، خصوصًا في الملفات المثيرة للجدل مثل السجائر الإلكترونية.

من هنا، فإن الدعوة إلى تعزيز الشفافية والمساءلة طلب مشروع، بل ضرورة لضمان أن تبقى المنظمة مؤسسة علمية بالدرجة الأولى، لا مؤسسة سياسية بغطاء صحي.

نحو مقاربة أكثر توازنًا

التجارب العالمية تُظهر بوضوح أن السجائر الإلكترونية يمكن أن تكون جزءًا من الحل، لا جزءًا من المشكلة. بريطانيا ونيوزيلندا نجحتا في خفض معدلات التدخين من خلال دمج الفيب في استراتيجيات الصحة العامة، بينما الإمارات والسعودية اختارت تنظيم السوق بدل حظره، وحققت بذلك استقرارًا أفضل من الدول التي اعتمدت الحظر المطلق.

في المقابل، لا يمكن إنكار المخاطر المرتبطة باستخدام الفيب بين الشباب أو غير المدخنين، وهو ما يجعل الحاجة إلى التنظيم أمر مهم. لكن التنظيم شيء، والحظر المطلق شيء آخر. وهنا تكمن المشكلة في خطاب منظمة الصحة العالمية: تركيزها المفرط على المخاطر جعلها تتجاهل الفوائد المحتملة للمدخنين البالغين.

لذلك، فإن الحل يكمن في مقاربة أكثر توازنًا، تعترف بالمخاطر لكنها لا تنكر الفرص. مقاربة تُعزز الشفافية في التمويل، وتستفيد من النجاحات الدولية، وتضع مصلحة الصحة العامة فوق كل اعتبار. عندها فقط يمكن للمنظمة أن تبقى وفية لشعارها: الصحة للجميع.

خلاصة القول :

خلاصة القول

لا شك أن منظمة الصحة العالمية مؤسسة لا غنى عنها، وقد حققت إنجازات تاريخية لا يمكن إنكارها. لكنها في ملف السجائر الإلكترونية تبدو اليوم في موقع يحتاج إلى مراجعة جذرية. فبينما تواصل التحذير والتشدد، تُظهر تجارب عدة دول أن الفيب قد يكون فرصة حقيقية لإنقاذ الأرواح.

إن الحرب على التبغ يجب أن تظل موجهة ضد المنتج القاتل فعلًا، لا ضد البدائل التي قد تساعد على التخلص منه. وإذا لم تُصحح منظمة الصحة العالمية – WHO مسارها، فإنها تخاطر بفقدان ثقة الدول والشعوب، وتحوّل حربها العادلة ضد التدخين إلى حرب مثيرة للجدل ضد أدوات الإقلاع.

اشترك في النشرة الإخبارية

انضم إلى اكثر من 8000 مشترك في نشرة اخبار Vaping Post. لتبقى على اطلاع بجميع أخبار السجائر الالكترونية

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments