في خطوة تعكس تحولًا محوريًا في سياسات مكافحة التدخين، دعت الدكتورة Nora Volkow، مديرة المعهد الوطني الأمريكي للإدمان (NIDA)، إلى اعتماد السجائر الإلكترونية كخيار علاجي رسمي لمساعدة المدخنين على الإقلاع عن التدخين.
جاءت هذه الدعوة في مقال نشرته على الموقع الرسمي للمعهد، حيث أكدت أن تراكم الأدلة العلمية بات يبرر النظر إلى السجائر الإلكترونية كوسيلة فعالة للحد من أضرار التبغ، إلى جانب الأدوية المعتمدة مثل لصقات النيكوتين أو العلكة الطبية.
هذه التصريحات تفتح بابًا واسعًا للنقاش العلمي والسياسي في الولايات المتحدة والعالم، خصوصًا في ظل الجدل القائم حول دور السجائر الإلكترونية، بين من يعتبرها تهديدًا للصحة العامة ومن يراها أملًا لإنقاذ ملايين المدخنين من الأضرار القاتلة للتدخين التقليدي.
أدلة متزايدة على فعالية السجائر الإلكترونية في الإقلاع عن التدخين

الدكتورة Nora Volkow، مديرة المعهد
منذ ظهور السجائر الإلكترونية في الأسواق، انقسم المجتمع العلمي حول دورها في الصحة العامة. فبينما حذر بعض الباحثين والجهات الصحية من احتمال استقطاب الشباب إليها، اعتبر آخرون أنها تمثل فرصة فريدة لتقليل معدلات الوفيات المرتبطة بالتبغ. وفي مقالها الأخير، أشارت د. Volkow إلى أن هناك الآن أدلة علمية قوية و متنامية تثبت أن السجائر الإلكترونية يمكن أن تكون أداة فعّالة للإقلاع عن التدخين، خصوصًا عند استخدامها ضمن برامج علاجية منظمة.
واستشهدت Volkow، بمراجعة علمية حديثة صادرة عن مكتبة كوكران (Cochrane)، وهي واحدة من أهم الجهات العالمية في تقييم الأبحاث الطبية. وخلصت المراجعة، التي نُشرت عام 2024، إلى أن السجائر الإلكترونية التي تحتوي على النيكوتين أكثر فاعلية من بعض البدائل التقليدية مثل لصقات وعلكة النيكوتين، في مساعدة المدخنين على التوقف عن التدخين لمدة ستة أشهر على الأقل. وأشارت النتائج إلى أن نسبة الإقلاع الناجح باستخدام السجائر الإلكترونية تفوق بشكل واضح نسبة النجاح باستخدام الأدوية الأخرى المعتمدة.
كما أوضحت Volkow أن هذه النتائج لا تقتصر على الدراسات المخبرية، بل تمت ملاحظتها أيضًا في تجارب ميدانية شملت آلاف المدخنين في مختلف الدول. ففي بعض البرامج التي تم فيها توفير السجائر الإلكترونية مجانًا كجزء من العلاج، لوحظ انخفاض كبير في معدلات التدخين، بل وتحول بعض المدخنين إلى الامتناع التام عن التبغ. هذه المعطيات، بحسب Volkow، يجب أن تكون دافعًا للجهات الصحية للنظر بجدية في إمكانية إدماج السجائر الإلكترونية ضمن السياسات الرسمية لمكافحة التدخين.
إلى جانب ذلك، أشارت Volkow إلى أن العديد من الهيئات العلمية والمنظمات الصحية، مثل الجمعية الأمريكية لطب الإدمان وبعض الجهات الصحية في المملكة المتحدة، باتت تدعم مفهوم التحول التدريجي من السجائر التقليدية إلى البدائل الأقل ضررًا. وقد تبنت بريطانيا، على سبيل المثال، استراتيجية صريحة تعتبر السجائر الإلكترونية جزءًا من خططها الوطنية للحد من التدخين، وهو ما ساهم في تراجع معدلات التدخين هناك إلى أدنى مستوياتها تاريخيًا.
تحديات أمام اعتماد السجائر الإلكترونية كعلاج رسمي
رغم تراكم الأدلة العلمية، لا تزال السجائر الإلكترونية تُعامل في الولايات المتحدة ومعظم دول العالم كمنتجات استهلاكية، وليس كوسائل علاجية. وأوضحت Volkow أن إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) لم توافق حتى الآن على تسجيل أي سجائر إلكترونية كعلاج للإقلاع عن التدخين، كما أن الشركات المصنعة لم تقدم طلبات رسمية للحصول على مثل هذا الاعتماد. ويرجع ذلك جزئيًا إلى تعقيدات تنظيمية وعلمية، إذ يتطلب اعتماد أي منتج كدواء المرور بسلسلة صارمة من الاختبارات السريرية لإثبات فعاليته وسلامته على المدى الطويل.
وأشارت Volkow إلى أن هناك حاجة ماسة لدراسات طويلة الأمد لتقييم التأثيرات الصحية المستمرة لاستخدام السجائر الإلكترونية، خاصة بين الفئات الأكثر هشاشة مثل المراهقين أو الأشخاص الذين يعانون من أمراض مزمنة. كما أن أحد التحديات يكمن في تحديد المعايير التي يجب اعتمادها لاعتبار الإقلاع ناجحًا: فهل يكون الهدف الامتناع التام عن التدخين فقط، أم يمكن الاكتفاء بتقليل عدد السجائر بشكل كبير إذا كان ذلك يؤدي إلى فوائد صحية ملموسة؟
هذه الأسئلة، بحسب Volkow، تحتاج إلى نقاش معمق بين العلماء والجهات التنظيمية وصناع القرار.
وتطرقت أيضًا إلى قضية الاستخدام المزدوج، حيث يستمر بعض المدخنين في استخدام السجائر التقليدية إلى جانب السجائر الإلكترونية. هذا النمط يقلل من الفوائد الصحية المرجوة، ويعقد عملية تقييم فعالية هذه الأجهزة كوسيلة للإقلاع. ولذلك، دعت Volkow إلى تصميم برامج علاجية تركز على الانتقال التدريجي والمنظم من السجائر التقليدية إلى البدائل الإلكترونية، وصولًا إلى الامتناع التام عن التدخين.
كما شددت على أن تحويل السجائر الإلكترونية إلى علاج معتمد سيفتح الباب أمام تغطيتها من قبل أنظمة التأمين الصحي، مما سيجعلها متاحة لفئات أوسع من المدخنين الذين قد لا يتمكنون من تحمل تكاليفها حاليًا. هذا الجانب الاقتصادي والاجتماعي يعد حاسمًا، لأنه قد يساهم في تقليص الفوارق الصحية بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
فرصة للحد من أضرار التبغ
إن دعوة مديرة NIDA لا تقتصر أهميتها على الولايات المتحدة، بل قد يكون لها تأثير عالمي واسع، خاصة إذا أخذت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية هذه التوصيات بعين الاعتبار وبدأت في وضع إطار تنظيمي واضح لاعتماد السجائر الإلكترونية كعلاج. ففي حال حدوث ذلك، من المرجح أن تتبع العديد من الدول هذا النموذج، تمامًا كما حدث مع الأدوية البديلة للنيكوتين التي أصبحت معيارًا عالميًا خلال العقود الماضية.
الدول التي تتبنى بالفعل سياسات الحد من الضرر، مثل المملكة المتحدة ونيوزيلندا، قد تجد في هذه الدعوة دعمًا علميًا إضافيًا لمواصلة نهجها. وفي المقابل، فإن الدول التي تتبنى سياسات أكثر صرامة، مثل الحظر الكامل للسجائر الإلكترونية أو تقييدها بشدة، ستواجه ضغوطًا متزايدة لإعادة النظر في مواقفها، خاصة إذا توفرت بيانات علمية قوية تثبت فعالية هذه الأجهزة في إنقاذ الأرواح.
على الصعيد العالمي، يواجه العالم تحديًا هائلًا يتمثل في وجود أكثر من مليار مدخن، يموت منهم سنويًا أكثر من ثمانية ملايين شخص بسبب أمراض مرتبطة بالتبغ، بحسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية. في هذا السياق، يمثل أي تقدم في مجال العلاجات البديلة فرصة لإنقاذ ملايين الأرواح وتقليل العبء الصحي والاقتصادي للتدخين.
ورغم أن الطريق لا يزال طويلًا قبل اعتماد السجائر الإلكترونية كعلاج رسمي، فإن تصريحات Volkow تمثل بداية نقاش جديد قد يغير ملامح سياسات الصحة العامة خلال السنوات المقبلة. فهي تدعو إلى تبني مقاربة واقعية تقوم على العلم والبيانات، بدلًا من الاكتفاء بالشعارات أو السياسات العقابية التي لم تثبت فعاليتها في خفض معدلات التدخين.
خلاصة القول
تمثل دعوة مديرة المعهد الوطني الأمريكي للإدمان نقطة تحول في النقاش العالمي حول السجائر الإلكترونية. فبينما لا يزال الجدل محتدمًا بين مؤيد ومعارض، تشير الأدلة العلمية المتزايدة إلى أن هذه الأجهزة اقل ضررا وأدوات فعّالة لإنقاذ ملايين المدخنين من براثن السجائر التقليدية.
غير أن تحويل هذه الرؤية إلى واقع يتطلب جهودًا متكاملة من العلماء، والجهات التنظيمية، وصناع القرار، لإجراء الأبحاث اللازمة ووضع أطر قانونية واضحة. وإذا ما تحقق ذلك، فقد نشهد ولادة جيل جديد من السياسات الصحية التي تركز على الحد من أضرار التبغ، وتمنح المدخنين فرصة حقيقية للإقلاع عن التدخين وإنقاذ حياتهم.