لطالما شكّل الإقلاع عن التدخين تحديًا كبيرًا أمام ملايين المدخنين حول العالم، رغم توافر بدائل متعددة للنيكوتين وبرامج علاجية مختلفة. وخلال السنوات الأخيرة، برزت السجائر الإلكترونية كأحد أكثر الخيارات إثارة للجدل في هذا السياق، بين من يراها فرصة واقعية لمساعدة المدخنين على التوقف، ومن يشكك في فعاليتها أو دورها الحقيقي. في هذا الإطار، تأتي دراسة علمية حديثة نُشرت في مجلة Nicotine & Tobacco Research العلمية المحكّمة، وتنشرها دار نشر جامعة أكسفورد (Oxford University Press)، لتقدم معطيات مبنية على بيانات واسعة تُظهر أن السجائر الإلكترونية حققت نتائج مهمة وإيجابية في مسار الإقلاع عن التدخين.
اعتمدت الدراسة على تحليل بيانات تجربة سريرية عشوائية كبيرة شملت 886 مدخنًا بالغًا كانوا يحاولون الإقلاع عن التدخين ضمن برنامج منظم، وتمت متابعتهم على مدار عام كامل. هذا الحجم من المشاركين، إلى جانب فترة المتابعة الطويلة، يمنح نتائج الدراسة وزنًا علميًا واضحًا مقارنة بدراسات قصيرة المدى أو مبنية على استبيانات ذاتية فقط.
ما يميز هذه الدراسة أنها لم تتعامل مع السجائر الإلكترونية كعامل واحد ثابت، بل ركزت على أنماط الاستخدام المختلفة خلال محاولة الإقلاع. فبدل الاكتفاء بالسؤال عما إذا كان المشاركون استخدموا الفيب أم لا، قام الباحثون بتحليل كيفية استخدامه وارتباط ذلك بنتائج الإقلاع أو تقليل التدخين. هذا النهج سمح بفهم أكثر واقعية لدور السجائر الإلكترونية في الحياة اليومية للمدخنين.
الدراسة والنتائج: ماذا حلّل الباحثون وماذا توصلوا إليه؟
خلال فترة المتابعة، صُنّف المشاركون إلى مجموعات بحسب سلوكهم: مدخنون استخدموا السجائر الإلكترونية بشكل كامل، آخرون استخدموها إلى جانب السجائر التقليدية، ومجموعة استمرت في التدخين دون اللجوء إلى السجائر الإلكترونية. تمت مقارنة نتائج هذه المجموعات في مراحل مختلفة من محاولة الإقلاع، بدءًا من الأسابيع الأولى، ثم بعد عدة أشهر، وصولًا إلى نهاية العام.
أظهرت النتائج أن المدخنين الذين استخدموا السجائر الإلكترونية حققوا معدلات أفضل للإقلاع عن التدخين مقارنة بمن لم يستخدموها. هذا التفوق لم يكن مؤقتًا، بل استمر على المدى المتوسط والطويل. ففي المراحل الأولى، كان مستخدمو السجائر الإلكترونية أكثر احتمالًا للتوقف عن التدخين، وهي مرحلة تُعد حاسمة في نجاح أي محاولة إقلاع.
ومع مرور الوقت، كشفت البيانات أن استخدام السجائر الإلكترونية ارتبط أيضًا بتقليل ملموس في عدد السجائر اليومية لدى المشاركين الذين لم يصلوا إلى الإقلاع الكامل. هذا التقليل لم يكن هامشيًا، بل وصل في كثير من الحالات إلى خفض الاستهلاك إلى النصف أو أكثر، ما يعكس تأثيرًا حقيقيًا على سلوك التدخين.
من النتائج اللافتة في الدراسة إعادة النظر في مفهوم «الاستخدام المزدوج»، أي الجمع بين السجائر الإلكترونية و السجائر التقليدية. بدل اعتبار هذا النمط فشلًا في الإقلاع، أظهرت البيانات أن عددًا كبيرًا من المشاركين استخدموا الفيب كمرحلة انتقالية. هؤلاء بدأوا باستخدام السجائر الإلكترونية مع الاستمرار في التدخين، ثم انتقلوا تدريجيًا إلى تقليل عدد السجائر، وصولًا في الكثير من الحالات إلى الإقلاع الكامل. هذا المسار يعكس واقع الكثير من المدخنين الذين يجدون صعوبة في التوقف المفاجئ.
كما أظهرت الدراسة أن القدرة على التحكم في جرعة النيكوتين لعبت دورًا مهمًا في نجاح محاولات الإقلاع. بعض المشاركين بدأوا باستخدام سوائل ذات تركيز مرتفع لتخفيف أعراض الانسحاب، ثم خفّضوا التركيز تدريجيًا مع الوقت، ما ساعدهم على الحفاظ على الاستقرار في المراحل الأولى وتقليل الاعتماد لاحقًا.
إلى جانب ذلك، لاحظ الباحثون أن السجائر الإلكترونية وفرت عنصرًا سلوكيًا مهمًا يتمثل في محاكاة تجربة التدخين نفسها، وهو ما قد يفسر لماذا وجد بعض المدخنين الفيب أكثر قابلية للاستمرار مقارنة ببدائل النيكوتين التقليدية التي تركز على النيكوتين وحده.
أهمية هذه النتائج تكمن في أنها مبنية على بيانات واقعية من تجربة سريرية واسعة، وليست مجرد افتراضات نظرية. كما أن نشر الدراسة في مجلة علمية محكّمة ومتخصصة يعزز من موثوقيتها ويضعها ضمن النقاش العلمي الجاد حول أدوات الإقلاع عن التدخين.
الدراسة تسلط الضوء على حقيقة أن الإقلاع عن التدخين ليس مسارًا واحدًا يناسب الجميع. فبينما ينجح بعض المدخنين في التوقف المفاجئ، يحتاج آخرون إلى مسار تدريجي أكثر مرونة. في هذا السياق، تظهر السجائر الإلكترونية، وفق نتائج هذه الدراسة، كأداة ساعدت شريحة واسعة من المشاركين على الابتعاد عن السجائر التقليدية، سواء عبر الإقلاع الكامل أو تقليل الاستهلاك بشكل ملحوظ.
قراءة تحليلية أعمق لنتائج الدراسة
ما يجعل نتائج هذه الدراسة لافتة بشكل خاص هو أنها تُظهر الإقلاع عن التدخين كعملية تدريجية، وليست قرارًا لحظيًا. البيانات تعكس واقعًا أكثر تعقيدًا من التصورات الثنائية التي تُقسّم المدخنين إلى “ناجحين” و“فاشلين”. تقليل عدد السجائر، وفق ما أظهرته الدراسة، لم يكن نتيجة ثانوية، بل خطوة محورية على طريق الإقلاع الكامل.
التحليل يكشف أيضًا فجوة واضحة بين الخطاب العام حول “الاستخدام المزدوج” والواقع العملي. ففي حين يُقدَّم هذا النمط غالبًا كدليل على فشل الإقلاع، تُظهر البيانات أنه كان لدى عدد كبير من المشاركين مرحلة مؤقتة سبقت تحسنًا فعليًا في سلوك التدخين. هذا يطرح تساؤلات مهمة حول كيفية تقييم نجاح محاولات الإقلاع ومعايير الحكم عليها.
كما تبرز الدراسة أهمية المرونة في التعامل مع النيكوتين. بدل التركيز على الامتناع الفوري، أظهرت النتائج أن التدرج في تقليل الجرعة مكّن المشاركين من تجاوز أصعب مراحل الانسحاب، ثم خفض الاعتماد تدريجيًا. هذا النموذج يختلف عن الأساليب التقليدية التي تفترض أن الحل يكمن في القطع السريع، وهو ما يفسر فشل كثير من المحاولات السابقة لدى شريحة واسعة من المدخنين.
في هذا السياق، يمكن فهم نتائج الدراسة على أنها دعم عملي لفكرة أن السجائر الإلكترونية ليست مجرد بديل شكلي، بل أداة ساعدت فعليًا في تغيير سلوك التدخين لدى المشاركين، من خلال الجمع بين تلبية الحاجة إلى النيكوتين وتوفير إطار سلوكي أكثر قابلية للاستمرار.
خلاصة القول
من خلال تحليل بيانات 886 مشاركًا على مدار عام كامل، توصلت هذه الدراسة إلى أن السجائر الإلكترونية ارتبطت بنتائج إيجابية ومهمة في مساعدة المدخنين على الإقلاع عن التدخين أو تقليل استهلاكهم للسجائر التقليدية. النتائج تُظهر أن استخدام الفيب، سواء كبديل كامل أو كمرحلة انتقالية، لعب دورًا فعليًا في تحسين فرص الإقلاع مقارنة بالاستمرار في التدخين فقط.
بعيدًا عن الخطاب العاطفي أو الأحكام المسبقة، تقدم هذه الدراسة دليلًا علميًا قائمًا على بيانات واسعة، يُظهر كيف يمكن للسجائر الإلكترونية أن تكون جزءًا فعالًا من مسار الإقلاع عن التدخين لدى عدد كبير من المدخنين. وهي بذلك تضيف عنصرًا مهمًا للنقاش القائم حول سياسات الإقلاع، مستندة إلى نتائج عملية و تجربة سريرية حقيقية.
المصادر :
Francesca Pesola, Katie Myers Smith, Dunja Przulj, Daniella Ladmore, Anna Phillips-Waller, Hayden McRobbie, Peter Hajek, Patterns of e-Cigarette Use and Smoking Cessation Outcomes: Secondary Analysis of a Large Randomised Controlled Trial to Inform Clinical Advice, Nicotine & Tobacco Research, 2025;, ntaf240, https://doi.org/10.1093/ntr/ntaf240





