شهدت بريطانيا مؤخرًا نقطة تحوّل غير مسبوقة في سياق مكافحة التدخين : ولأول مرة، عدد مستخدمي السجائر الإلكترونية يفوق عدد المدخنين التقليديين. هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة سنوات من التغيير في السلوك الصحي، وتطور التشريعات، وتراكم الأدلة العلمية التي تشير إلى أن السجائر الإلكترونية يمكن أن تكون أداة فعّالة لمساعدة المدخنين على الإقلاع، أو على الأقل الابتعاد عن الضرر الأكبر الذي تُشكّله السجائر القابلة للاحتراق.
المقال المنشور في مجلة The BMJ، أحد أكثر المصادر الطبية مصداقية في العالم، سلّط الضوء على هذا الواقع الجديد بوضوح: بريطانيا أصبحت رسميًا دولة فيها مستخدمو السجائر الإلكترونية أكثر عددًا من المدخنين. هذه ليست مجرد إحصائية عابرة، بل هي علامة على تغيّر ثقافي وصحي عميق داخل المجتمع البريطاني.
هذا التطور يعتبر — بالنسبة لخبراء الصحة العامة — دليلًا على إعادة تشكيل مفهوم التعامل مع منتجات النيكوتين. فبدلًا من النظر إلى النيكوتين من زاوية واحدة، بدأ النقاش يتجه نحو التفريق بين “الاستهلاك” و“الضرر”. وفي الوقت الذي استمرت فيه سياسات تقليل التدخين لعقود دون تحقيق النتائج المرجوّة، يبدو أن البدائل منخفضة الضرر لعبت الدور الأكبر في إحداث هذا التغيير.
تفوق السجائر الإلكترونية على التدخين : ماذا تقول الأرقام؟
تؤكّد البيانات البريطانية الحديثة، كما وردت في تقرير BMJ، أن البلاد وصلت إلى نقطة تحول صحية غير مسبوقة: عدد مستخدمي السجائر الإلكترونية الآن أكبر من عدد المدخنين التقليديين. هذا التطور يعكس توجهًا واضحًا بين السكان نحو الابتعاد عن السجائر القابلة للاحتراق، والتي تبقى السبب الأكبر للوفيات المرتبطة بالتبغ بنسبة تتجاوز 90%.
التقرير يبرز أن نسبة المدخنين في بريطانيا تراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ بدء جمع البيانات الرسمية. وفي المقابل، ارتفع عدد البالغين الذين يعتمدون على السجائر الإلكترونية — سواء كبديل دائم أو كمرحلة انتقالية نحو الإقلاع الكامل. ورغم أن التقرير لم يهدف إلى تقييم فعالية السجائر الإلكترونية سريريًا، إلا أن المؤشرات الاجتماعية والصحية تعكس نتيجة واضحة: البريطانيون يختارون البديل الأقل ضررًا.
ما يجعل هذه اللحظة مهمة هو أنها تمثّل تغييرًا سلوكيًا واسعًا في المجتمع. فخلال سنوات قليلة فقط، تغيّر مشهد النيكوتين من سيطرة شبه كاملة للسجائر التقليدية إلى تفوّق للسجائر الإلكترونية، وهذا يعكس فهمًا أكبر للمخاطر الصحية المرتبطة بالاحتراق والدخان، وتناميًا في الوعي بأهمية تقليل الضرر.
كما أن هذا التحوّل لم يحدث نتيجة سياسات قمعية أو منع شامل للسجائر التقليدية، بل كان نتيجة استراتيجية تقوم على توفير معلومات دقيقة، وتنظيم واضح، ومنح المدخنين بديلًا واقعيًا يستطيعون الاعتماد عليه دون شعور بالذنب أو الخوف.
لماذا حدث هذا التحوّل؟ ولماذا في بريطانيا بالذات؟
لم يحدث هذا التحوّل بشكل عشوائي، بل كان نتيجة لسنين من الفهم العميق لهذه الاداة. عوامل كثيرة ساعدت للوصول الى هذه النتيجة، التشريعات السياسية والأبحاث العلمية وغيرها كانت السبب. نسلط الضوء الآن على أهم هذه العوامل :
1. الاعتراف الرسمي الصريح بسياسة تقليل الضرر
من أبرز أسباب نجاح السجائر الإلكترونية في بريطانيا هو أن السلطات الصحية لم تتعامل معها كتهديد، بل كأداة.
فمنذ سنوات عديدة، تبنّت الهيئات الصحية — مثل Public Health England ومن بعدها Office for Health Improvement and Disparities — موقفًا واضحًا:
هذا الموقف الرسمي، المدعوم بتقارير سنوية وتحليلات علمية دقيقة، أزال مخاوف المدخنين. لم تعد الرسالة “أقلع وإلا”، بل أصبحت:
“إذا لم تستطع الإقلاع ، فانتقل إلى بديل أقل ضررًا.”
هذا الاعتراف الرسمي منح السجائر الإلكترونية شرعية صحية، وخلق بيئة تشجّع المدخنين على التجربة بدلًا من أن تدفعهم للخوف أو التردد.
2. وضوح المعلومات وتوفر الأدلة العلمية القوية
خلافًا للعديد من الدول التي بقيت نقاشاتها حول السجائر الإلكترونية قائمة على التخوّفات أو التوقعات، اعتمدت بريطانيا على الأدلة.
تمّت دراسة تركيبة السوائل، آليات التسخين، الفوارق بين الأبخرة والدخان، التأثيرات على الجهاز التنفسي، معدلات الاقلاع، وحتى السلوكيات النفسية المرتبطة بالانتقال إلى السجائر الإلكترونية.
ومن خلال هذه الدراسات، تكوّن إجماع علمي محلي مفاده:
هذا المستوى من الشفافية العلمية جعل المدخنين يشعرون بالأمان النسبي عند اتخاذ قرار الانتقال، وأزال التضارب الإعلامي الذي يعاني منه المستخدمون في أماكن أخرى.
3. تنظيم واضح للسوق وضمان جودة المنتجات
السوق البريطاني للسجائر الإلكترونية منظّم بشكل يجعل المستخدم يشعر أن المنتجات التي بين يديه آمنة وخاضعة للرقابة.
هناك حدود لنسب النيكوتين، قيود على حجم الخزانات، معايير للتصنيع، تسجيل إلزامي للسوائل والأجهزة، ومراجعات دورية للتأكد من مطابقة المواصفات.
هذا التنظيم وفّر ثلاثة عناصر أساسية:
- ثقة المستهلك في المنتج
- استقرار الأسعار وتوفر خيارات متنوعة
- حماية من المنتجات المقلدة أو مجهولة المصدر
وجود سوق منظّم جعل السجائر الإلكترونية خيارًا موثوقًا، وسهّل على المدخنين الانتقال دون تخوّف من جودة المنتج أو أضراره غير المتوقعة.
4. تغيّر ثقافي واجتماعي تجاه النيكوتين والضرر
شهد المجتمع البريطاني، خلال العقد الأخير، تحولًا ثقافيًا تدريجيًا في طريقة التعامل مع النيكوتين. فلم يعد يُنظر إلى جميع منتجات النيكوتين بالمعيار نفسه، بل أصبح هناك وعي بأن المشكلة الأساسية ليست النيكوتين بحد ذاته، وإنما طريقة استهلاكه (الاحتراق).
هذا الوعي الجديد — المدعوم بإعلام مسؤول وخطاب صحي متوازن — ساهم في خلق ثقافة ترى في السجائر الإلكترونية خيارًا منطقيًا للمدخنين، خصوصًا أنها:
- أقل تكلفة على المدى الطويل
- أقل ضررًا
- متاحة بسهولة
- مقبولة اجتماعيًا أكثر من التدخين التقليدي
وبمرور الوقت، أصبح استخدام السجائر الإلكترونية “سلوكًا صحيًا بديلًا” وليس “عادة مثيرة للجدل”، وهو ما مهد الطريق للتغيير الواسع الذي نشهده اليوم.
خلاصة القول :

يمثل تفوق السجائر الإلكترونية على السجائر التقليدية في بريطانيا لحظة فارقة في تاريخ مكافحة التدخين. إنها إشارة واضحة إلى أن سياسات تقليل الضرر ليست مجرد فكرة نظرية، بل نهج قادر على تحقيق نتائج ملموسة وقابلة للقياس.
ما حدث في بريطانيا لا يعني أن الفيب بلا مخاطر، ولا يعني أنه حلّ سحري، لكنه يثبت — وفق الأدلة والواقع — أنه أداة فعالة يمكن أن تساعد الملايين على الابتعاد عن السجائر القابلة للاحتراق، والتي تبقى أكثر المنتجات استهلاكًا للنيكوتين تسببًا للوفاة والأمراض.
لقد أدرك المجتمع البريطاني أن الطريق نحو مجتمع خالٍ من التدخين لا يمر فقط عبر المنع أو القيود، بل عبر توفير بدائل أقل ضررًا، وتثقيف الناس بالحقائق العلمية، وتمكينهم من اتخاذ خيار واعٍ ومدروس.
وبينما يواصل العالم مراقبة هذا التحوّل عن قرب، من المؤكد أن بريطانيا قد دخلت فعلاً مرحلة جديدة — مرحلة أصبحت فيها السجائر الإلكترونية هي الخيار الأكثر انتشارًا بين مستهلكي النيكوتين، وهو ما قد يعيد تشكيل مستقبل الصحة العامة لعقود قادمة.





