في مقال نشره الدكتور عثمان اللبان، أخصائي طب الأسرة، في جريدة الخليج الإلكترونية بتاريخ 4 أغسطس 2025، تناول الكاتب قضية تقليل أضرار التبغ وكيف يمكن للدول حول العالم — وبالأخص الإمارات — الاستفادة من التجارب الناجحة التي أثبتت فعاليتها في الحد من أضرار التدخين.

مصدر الصورة موقع صحيفة الخليج
أوضح الدكتور أنه استلهم هذا الطرح بعد مشاركته وحضوره فعاليات منتدى النيكوتين العالمي (GFN 2025) الذي عُقد مؤخرًا في مدينة وارسو، حيث اطّلع على أحدث الأبحاث والممارسات الدولية في هذا المجال. واستعرض في مقاله دروسًا من سياسات صحية متقدمة وتقنيات حديثة، مثل تسخين التبغ بدلاً من حرقه واستخدام السجائر الإلكترونية كبدائل أقل ضررًا، مشيرًا إلى أن النيكوتين بحد ذاته ليس مادة مسرطنة، وأن الخطر الأكبر يأتي من عملية الاحتراق وما ينتج عنها من مواد سامة.
مفهوم تقليل أضرار التبغ (THR)
يُعرّف تقليل أضرار التبغ (Tobacco Harm Reduction – THR) بأنه نهج صحي يهدف إلى خفض المخاطر الصحية المرتبطة باستخدام التبغ، بدلًا من التركيز فقط على المنع التام أو الإقلاع الكامل. هذا المفهوم يحظى بقبول متزايد في العديد من الدول التي أدركت أن شريحة كبيرة من المدخنين غير قادرة أو غير راغبة في الإقلاع الفوري، مما يجعل توفير بدائل أقل ضررًا خيارًا عمليًا وواقعيًا.
الدكتور اللبان أشار إلى أن النيكوتين، رغم كونه مادة مسببة للإدمان، لا يُصنَّف كمادة مسرطنة من قبل هيئات علمية مرموقة مثل الوكالة الدولية لأبحاث السرطان (IARC) وإدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA). الخطر الحقيقي — كما يؤكد — يكمن في عملية احتراق التبغ التي تنتج آلاف المواد الكيميائية السامة والمسرطنة، وليس في النيكوتين نفسه.
الابتكارات التكنولوجية في مكافحة أضرار التدخين
أحد المحاور الجوهرية التي طرحها الدكتور عثمان اللبان هو الدور المتنامي للتكنولوجيا في تغيير المشهد الصحي العالمي المتعلق بالتدخين. فمع تزايد الوعي العام بالمخاطر، وتراجع أعداد المدخنين في بعض الدول المتقدمة، بدأت شركات التبغ والتكنولوجيا الطبية في الاستثمار في حلول مبتكرة تستهدف تقليل الضرر بدلًا من إلغائه تمامًا.
أجهزة التبغ المسخن، على سبيل المثال، تعمل على رفع درجة حرارة أوراق التبغ إلى حد يسمح بانبعاث النيكوتين والنكهات، دون الوصول إلى درجة الاحتراق الكامل التي تولد آلاف المواد السامة والمسرطنة. وقد أظهرت تقارير علمية من اليابان وسويسرا أن هذه التقنية تقلل إنتاج المواد الضارة مثل أول أكسيد الكربون بنسبة تصل إلى 90% مقارنة بالسجائر التقليدية.
أما السجائر الإلكترونية، فهي تمثل نقلة نوعية في بدائل النيكوتين. فبدلًا من استنشاق الدخان الناتج عن الحرق، يحصل المستخدم على بخار يحتوي على النيكوتين والنكهات، لكن مع مستويات أقل بكثير من المواد المسرطنة. الدكتور اللبان شدد على أن هذه المنتجات، وإن لم تكن خالية من المخاطر، قد تشكل فرصة ذهبية للمدخنين غير القادرين على الإقلاع التام للانتقال إلى بدائل أقل ضررًا، شريطة أن يكون الانتقال كاملاً ودائمًا، لا أن يكون استخدامًا مزدوجًا يجمع بين السجائر التقليدية والبدائل.
كما أشار إلى أن التطور في صناعة الفلاتر والأنظمة الذكية داخل بعض الأجهزة الإلكترونية يساعد في التحكم بجرعات النيكوتين بدقة، مما قد يقلل من الاعتماد المفرط ويتيح للمستخدم تقليل الجرعات تدريجيًا إذا كان هدفه النهائي الإقلاع التام.
دروس من التجارب الدولية
المملكة المتحدة
تُعد من أبرز الدول التي تبنت السجائر الإلكترونية بشكل رسمي كجزء من استراتيجيات الإقلاع عن التدخين. وقد أكدت هيئة الصحة العامة الإنجليزية (Public Health England) في تقريرها الشهير لعام 2015، والمحدث في 2023، أن السجائر الإلكترونية أقل ضررًا بنسبة تصل إلى 95% مقارنة بالتدخين التقليدي، إذا تم استخدامها كبديل كامل. ونتيجة لهذه السياسة، انخفضت معدلات التدخين في بريطانيا إلى مستويات تاريخية هي الأدنى منذ بدء تسجيل الإحصاءات، مع أكثر من 3.5 مليون مستخدم للسجائر الإلكترونية في البلاد، معظمهم مدخنون سابقون. كما دعمت الحكومة البريطانية برامج مبتكرة مثل مبادرة “Swap to Stop”، والتي توفر أجهزة الفيب مجانًا للمدخنين الراغبين في الإقلاع، إلى جانب حملات توعية رسمية عبر الإعلام والمنشورات الطبية.
نيوزيلندا
اعتمدت نيوزيلندا استراتيجية “جيل خالٍ من التدخين” التي تهدف إلى جعل البلاد خالية من السجائر بحلول عام 2025. هذه الخطة تقوم على تقليل عدد نقاط بيع التبغ بشكل كبير، وخفض مستويات النيكوتين في السجائر التقليدية لجعلها أقل إدمانًا، مع تشجيع المدخنين على التحول إلى منتجات أقل ضررًا مثل السجائر الإلكترونية وأجهزة تسخين التبغ. وزارة الصحة النيوزيلندية أصدرت أدلة إرشادية للأطباء والصيادلة توصي باستخدام السجائر الإلكترونية كوسيلة فعّالة للإقلاع، وأطلقت حملات تثقيفية لشرح الفروق بين النيكوتين والسموم الناتجة عن الاحتراق. وقد أسهمت هذه السياسات في خفض معدل التدخين اليومي بين البالغين إلى أقل من 8%، وهو من أدنى المعدلات عالميًا.
السويد
قدمت السويد مثالًا استثنائيًا في تقليل الضرر من خلال انتشار منتج الـ سنوس (Snus) — وهو تبغ غير مدخَّن يوضع تحت الشفة — كبديل شائع للسجائر. هذا المنتج، المحظور في معظم دول الاتحاد الأوروبي باستثناء السويد، ساهم في جعل معدلات التدخين بين الرجال أقل من 5%، وهي النسبة الأدنى في أوروبا. كما أن معدلات وفيات سرطان الرئة في السويد هي الأقل في القارة، وهو ما ربطه الباحثون بشكل مباشر بالتحول من السجائر إلى السنوس. وقد سمحت الحكومة السويدية بتسويق السنوس للبالغين مع حملات توعية تركز على الفارق في المخاطر، مما جعل التجربة السويدية مرجعًا مهمًا للنقاش الأوروبي حول بدائل التبغ منخفضة المخاطر.
اليابان
كانت اليابان من أوائل الدول في آسيا التي شهدت تحولًا واسعًا نحو منتجات تسخين التبغ. منذ إدخال هذه المنتجات إلى السوق في عام 2014، انخفضت مبيعات السجائر التقليدية بنسبة تفوق 40% خلال خمس سنوات، وهو انخفاض غير مسبوق. شركات مثل فيليب موريس وجابان توباكو استثمرت بكثافة في تطوير أجهزة تسخين عالية الجودة، فيما أظهرت دراسات محلية أنها تقلل بشكل كبير من التعرض للمواد السامة. وساعدت الثقافة اليابانية، التي تميل إلى الابتكار والتكنولوجيا، على سرعة تبني هذه البدائل، في ظل إطار تنظيمي يضمن جودة المنتجات وضبط تسويقها.
الإمارات وفرص بناء استراتيجية متكاملة
الإمارات، بحكم موقعها الجغرافي ودورها كمركز إقليمي للتجارة والسياسات الصحية المتقدمة، تقف في موقع يسمح لها بأن تكون رائدة في تطبيق استراتيجيات تقليل الضرر في المنطقة. فالدولة اتخذت خطوات مهمة لتنظيم سوق منتجات النيكوتين، من خلال معايير السلامة، ومنع التسويق للقاصرين، ووضع اشتراطات صارمة على التوزيع.
لكن، وكما أوضح الدكتور اللبان، فإن تبني نهج شامل سيتطلب ما هو أكثر من تشريعات، إذ يجب أن ترافقه سياسات توعية تقوم على تصحيح المفاهيم الخاطئة حول النيكوتين. ويمكن للإمارات الاستفادة من التجارب العالمية عبر إدماج البدائل في برامج الإقلاع، وإطلاق حملات إعلامية موسعة، ودعم الأبحاث المحلية لقياس الأثر الصحي والاقتصادي، مع التعاون مع هيئات دولية لتبادل أفضل الممارسات.
التحديات التي تواجه استراتيجية تقليل الضرر
رغم الفرص الكبيرة، تواجه هذه الاستراتيجية تحديات تشريعية ومجتمعية وعلمية وتجارية. فبعض الدول تفرض حظرًا شاملًا على البدائل، ما يحرم المدخنين من خيارات أقل ضررًا. كما يسود خلط بين النيكوتين والسموم الناتجة عن الاحتراق، مما يعيق قبول البدائل.
ورغم تراكم الأدلة على فعاليتها، تبقى الأبحاث طويلة المدى جارية، وهو ما يستخدمه المعارضون لتأجيل السياسات. كذلك، قد يثير دخول شركات التبغ الكبرى إلى السوق مخاوف من تضارب المصالح أو استهداف الشباب. نجاح هذه الاستراتيجية يتطلب موازنة دقيقة بين التشجيع والحماية من إساءة الاستخدام، عبر سياسات واضحة ومراقبة وتثقيف مستمر.
خلاصة القول
يؤكد مقال الدكتور عثمان اللبان أن تقليل أضرار التبغ ليس محاولة للترويج لمنتجات النيكوتين، بل هو مقاربة واقعية قائمة على الأدلة العلمية، تراعي الفروق الجوهرية بين المنتجات وتضع صحة المدخن في المقام الأول. وتُظهر التجارب الدولية، من بريطانيا إلى اليابان، أن الدمج بين التشريعات الذكية وحملات التوعية وتوفير بدائل أقل ضررًا يمكن أن يؤدي إلى نتائج ملموسة في خفض معدلات التدخين التقليدي. هذه النماذج الناجحة تثبت أن التغيير ممكن عندما تتوافر الإرادة السياسية والمعرفة العلمية، وأن الاعتماد على بيانات وأبحاث موثوقة هو السبيل لصياغة سياسات صحية فعّالة.
وبالنسبة للإمارات وسائر الدول العربية، فإن استلهام هذه التجارب لا يعني نسخها بحذافيرها، بل تكييفها بما يتناسب مع الواقع المحلي والثقافة المجتمعية. الخطوة الأولى تكمن في تصحيح المفاهيم الخاطئة حول النيكوتين والتمييز بينه وبين السموم الناتجة عن الاحتراق، إلى جانب دعم البحث العلمي المحلي وتدريب الكوادر الصحية على تقديم استشارات مبنية على الأدلة. بهذه الطريقة، يمكن بناء استراتيجية شاملة توازن بين حماية الصحة العامة وإتاحة الفرصة للمدخنين لتبني بدائل أقل ضررًا، وهو ما قد يمثل نقطة تحول حقيقية نحو مستقبل أكثر صحة وخالٍ من عبء التدخين.