هل تبني الحكومات سياساتها الصحية على الأدلة العلمية أم الأيديولوجيا؟ دراسة حديثة أجريت في جامعة ملبورن تكشف كيف تفسر دولتان هما أستراليا والمملكة المتحدة الأدلة العلمية حول السجائر الإلكترونية بطرق متضادة، حيث يكشف الذكاء الاصطناعي هذا التباين الملفت. بالاضافة الى، نتائج هذه السياسات على أرض الواقع.
التناقض بين أستراليا وبريطانيا
رغم أن السجائر الإلكترونية تُعد من أبرز أدوات الحد من أضرار التبغ المعتمدة في عدة دول، إلا أن السياسات الحكومية حولها ما تزال متخبطة، ويغلب عليها التباين الحاد. أبرز مثال على ذلك التناقض الصارخ بين أستراليا والمملكة المتحدة.
فمن جهة، تعتمد بريطانيا السجائر الإلكترونية كوسيلة فعّالة للمساعدة على الإقلاع عن التدخين، بينما تسير أستراليا في الاتجاه المعاكس، وتختار الحظر والتشديد، رغم أن الدولتين تستندان إلى نفس الأدلة العلمية تقريبًا. هذا التناقض ليس مجرد تفصيل بيروقراطي، بل يفتح الباب لسؤال كبير: هل تختار الحكومات ما يناسبها من الأدلة؟ وهل يتم تسييس الصحة العامة؟
هذا السؤال يزداد أهمية في ظل تزايد انتشار الفيب عالميًا، ودخوله كعنصر فاعل في مشهد الصحة العامة.
الذكاء الاصطناعي يدخل على الخط
في دراسة بحثية جديدة صادرة عن جامعة ملبورن في مايو 2025، استخدم الباحثون تقنية الذكاء الاصطناعي لتحليل الوثائق والقرارات السياسية المتعلقة بالسجائر الإلكترونية في البلدين، بهدف فهم الفروقات في طريقة تقديم الأدلة وتوظيفها.
استعان الفريق البحثي بنموذج (GPT-4) لتصنيف الجمل الموجودة في 109 وثيقة بحثية رسمية، تتعلق بسياسات واستجوابات و جلسات استماع حول السجائر الإلكترونية، وقاموا بتحديد ما إذا كانت الكلمات المستخدمة “مفيدة” أو “ضارة” أو “محايدة” تجاه السجائر الإلكترونية من منظور الصحة العامة.
النتائج كانت لافتة: وثائق أستراليا احتوت على نسبة أكبر بكثير من الجمل التي تُبرز المخاطر، بنسبة 38%، في حين لم تتجاوز نسبة الجمل الإيجابية 12%. في المقابل، ركزت وثائق المملكة المتحدة على الفوائد بنسبة 22%، مقابل 9% فقط للجمل السلبية.
هذه الفروقات ليست مصادفة، بل تعكس اختلافًا جوهريًا في توجهات السياسة الصحية لدى كل من البلدين، رغم اعتمادهما على نفس الدراسات والأبحاث العلمية. وتجدر الإشارة إلى أن الفريق البحثي لم يعتمد على بيانات خام فقط، بل قام بتدريب النموذج على تمييز اللغة التي تميل إلى الترهيب مقابل تلك التي تتبنى خطاب تقليل الضرر، مما أضفى موثوقية أكبر على النتائج.
خلف السياسات : الأدلة العلمية أم الأيديولوجيا؟
تكمن أهمية هذه الدراسة في أنها تكشف التحيز المؤسسي في التعامل مع الأدلة العلمية. في الوقت الذي تُصور فيه أستراليا السجائر الإلكترونية كخطر يهدد المراهقين ويعيد الإدمان، تقدم بريطانيا هذه المنتجات كأدوات إنقاذ تساعد المدخنين على التخلص من التبغ. الأمر لا يتعلق فقط بكيفية قراءة الأبحاث، بل بكيفية اختيار ما يُعرض منها، وما يُستبعد. وهنا يكمن السؤال الأعمق: هل تبني الحكومات سياساتها الصحية على الأدلة العلمية فعلاً، أم أن الاعتبارات الأيديولوجية والمواقف المسبقة هي من تُوجه الخطاب الرسمي؟
عند تحليل السياسات البريطانية، نجد أنها تستند إلى مبدأ تقليل الضرر، وهو مبدأ طبي معتمد عالميًا في مجالات متعددة، من بينها علاج الإدمان. في هذا السياق، تُعتبر السجائر الإلكترونية أداة مفيدة لتحويل المدخنين من المنتجات القاتلة إلى بدائل أقل ضررًا. هذا المنظور ينعكس بوضوح في توصيات المؤسسات البريطانية مثل Public Health England و NHS، حيث تُشجع الفيب بشكل رسمي وتدرجه في استراتيجيات الإقلاع عن التدخين. من جهة أخرى، هناك حتى مبادرات لتوزيع أجهزة الفيب على المدخنين في مناطق تعاني من معدلات عالية للتدخين.
على الجانب الآخر، يبدو أن أستراليا اختارت التركيز على حماية الشباب بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب المدخنين البالغين الذين يبحثون عن بدائل آمنة. لا شك أن حماية المراهقين هدف نبيل، لكن اختزال السياسة العامة في هذه الزاوية فقط قد يُضيع فرصًا ثمينة للحد من أضرار التبغ بين البالغين، خصوصًا أولئك الذين فشلت معهم الوسائل التقليدية للإقلاع. المفارقة أن كلا التوجهين يستندان إلى نفس الدراسات، ولكن الفلترة الأيديولوجية للأدلة جعلت نتائج السياسات مختلفة تمامًا.
في خضم هذا الجدل الغربي، تبرز أهمية التفكير في موقع الدول العربية من هذا النقاش. فبعض الدول اختارت الحظر الكلي للسجائر الإلكترونية، دون تقديم بدائل واقعية للمدخنين، مما قد يفتح الباب أمام أسواق غير خاضعة للرقابة أو يعزز من ظاهرة التهريب. في المقابل، هناك دول بدأت تتبنى تدريجيًا سياسات أكثر توازنًا، تسمح بالفيب ضمن أطر تنظيمية صحية وتفرض ضرائب معتدلة توازن بين الردع والتنظيم. ومن الأمثلة على ذلك، مصر وبعض دول الخليج مثل الإمارات العربية المتحدة و المملكة العربية السعودية قامت بتنظيم استخدام الفيب كوسيلة انتقالية.
من السياسات إلى الشارع : كيف يعيش المدخنون تناقض القرارات؟
الواقع أن هذا التباين في السياسات لا يبقى حبيس الوثائق الرسمية، بل ينعكس بشكل مباشر على حياة المدخنين. ففي المملكة المتحدة، أدى دعم السجائر الإلكترونية إلى ارتفاع نسب الإقلاع عن التدخين، وانخفاض في معدلات الأمراض المرتبطة به. وقد أظهرت الدراسات الحكومية هناك أن أكثر من 60% ممن استخدموا الفيب ضمن خطة علاجية نجحوا في الإقلاع عن السجائر التقليدية.
بينما في أستراليا، بدأت تظهر مؤشرات مقلقة، هذه السياسات الصارمة التي تعتمد على رفع الضرائب والحظر قد فشلت في الحد من الإدمان، بل أدت إلى نتائج عكسية، أبرزها ازدهار السوق السوداء وفقدان الثقة في السياسة الصحية العامة.
على الرغم من انخفاض معدلات التدخين التقليدي في أستراليا إلى 8.3% عام 2023، فإن استهلاك النيكوتين بقي مستقراً منذ عام 2016، بحسب بيانات المعهد الاسترالي للصحة. هذا يعني أن السلوك الإدماني لم يتغير، وإنما تغيرت فقط الوسيلة، وغالباً إلى وسائل غير شرعية وغير خاضعة للرقابة.
كذلك، لا يمكن تجاهل أثر هذه السياسات على الشباب. نعم، من المهم حماية المراهقين من النيكوتين، لكن تجاهل دور الفيب كبديل للبالغين يُعطل برامج الصحة العامة. التنظيم هو الحل، لا الحظر التام. يجب أن نسعى إلى منع الاستخدام غير المناسب دون أن نحرم المدخنين من وسيلة قد تنقذ حياتهم.
الفرق بين استخدام الأدلة وتوظيف الأدلة
في الختام، ما قدمته هذه الدراسة يتجاوز التحليل اللغوي أو التصنيف الآلي، إنه بمثابة مرآة تعكس كيف يمكن للخطاب السياسي أن يُعيد تشكيل الأدلة بما يخدم توجهاته. الذكاء الاصطناعي لم يصدر أحكامًا، بل كشف التناقضات، وأبرز الحاجة الملحة لمراجعة الطريقة التي تُدار بها ملفات الصحة العامة.
أدوات التحليل الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي، قد تكون في المستقبل القريب وسيلة للمساءلة، ومنصة لكشف التناقضات بين ما يُقال وما يُفعل.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح حليفًا للشفافية في صناعة القرار الصحي؟ وهل آن الأوان لمراجعة الأسس التي تُبنى عليها السياسات العامة؟ ما نحتاجه اليوم هو نقاش مفتوح، يستند إلى الأدلة العلمية لا إلى الأهواء، ويأخذ في الاعتبار الحقائق العلمية، لا الرغبات السياسية.
لأن مستقبل الصحة العامة لا يُبنى بالحظر، بل بالقرارات الواعية و المبنية على تحليل شامل للأدلة العلمية والمعطيات. وإذا كانت الحكومات تدعي الاستناد إلى الأدلة، فربما حان الوقت لقياس مدى التزامها بذلك.