على مدى سنوات طويلة، تبنّت منظمة الصحة العالمية (WHO) نهجًا صارمًا تجاه جميع منتجات النيكوتين، سواء كانت سجائر تقليدية أو بدائل أقل ضررًا مثل السجائر الإلكترونية ومنتجات التبخير وبدائل النيكوتين الحديثة. هذا النهج، الذي يقوم على فلسفة “الحظر والحد الأقصى من القيود”، ظلّ مسيطراً على سياسات منظمة الصحة العالمية منذ إطلاق اتفاقية مكافحة التبغ (WHO FCTC) في مطلع الألفية.
لكن مؤتمر الأطراف الحادي عشر (COP11)، الذي عُقد ضمن إطار اتفاقية مكافحة التبغ في جنيف، كشف عن مشهد مختلف تمامًا. بدل أن يكون المؤتمر منصة لتعزيز الموقف التقليدي للمنظمة، تحوّل إلى ساحة نقاش مكثف عكس درجة الارتباك والانقسام داخل المجتمع الدولي.
ما الذي حدث تحديدًا؟ ولماذا وجدت منظمة الصحة العالمية نفسها فجأة أمام مقاومة متزايدة من دول كانت سابقًا تدعم خطها التنظيمي؟
ثم، والأهم، كيف أصبحت الأدلة العلمية وتجارب الدول الناجحة تُظهر أن النهج المتشدد قد لا يكون مناسبًا لمواجهة وباء التدخين في القرن الحادي والعشرين؟
ماذا حدث في مؤتمر COP11؟
ماذا حدث في مؤتمر COP11؟
عندما بدأت جلسات COP11، كانت التوقعات تشير إلى أن منظمة الصحة العالمية ستنجح في تمرير توصيات أكثر صرامة تجاه السجائر الإلكترونية والمنتجات البديلة. فقبل المؤتمر، كانت هناك حملة واضحة من عدة منظمات دولية غير حكومية (NGOs) للضغط باتجاه حظر أشكال الإعلان والتسويق، وتقييد النكهات، ووضع مزيد من القيود على أجهزة التبخير، بل ودفع بعض الدول نحو حظر شامل على هذه المنتجات.
لكن ما حصل داخل المؤتمر كان مغايرًا تمامًا لهذا السيناريو المتوقّع.
مقاومة غير مسبوقة للنهج المتشدد
فوجئت منظمة الصحة العالمية بأن عددًا كبيرًا من الدول سواء من أوروبا أو آسيا أو أميركا اللاتينية لم تعد مستعدة للتوقيع تلقائيًا على التوصيات الصارمة. والسبب؟
هذه الدول، بحسب ما ورد في التقارير الإعلامية والتحليلات، بدأت تخشى من أن تؤدي السياسات التشددية إلى نتائج عكسية، خاصة في ظل توفر منتجات أقل ضررًا أثبتت في عدة مناطق أنها تساعد المدخنين على الإقلاع عن التبغ التقليدي.
ومن أبرز النقاط التي أثارت الجدل داخل الاجتماعات:
- غياب التمييز بين السجائر التقليدية (الأكثر ضررًا) وبين المنتجات منخفضة الضرر.
- غياب الأدلة العلمية القوية التي تدعم حظرًا واسعًا أو قيودًا قصوى على السجائر الإلكترونية.
- تزايد الأصوات العلمية التي تقول إن حماية المدخنين تتطلب خيارات متعددة وليس منع البدائل.
هذه الانتقادات جاءت من دول رأت في توصيات منظمة الصحة العالمية مقاربة “غير واقعية”، تعتمد على الرغبة في الحظر بدلًا من الاستناد إلى بيانات حقيقية عن المخاطر النسبية.
من قرارات إلزامية إلى إرشادات طوعية
واحدة من أهم نتائج COP11 كانت التراجع عن صياغة “قرارات إلزامية” تخص المنتجات البديلة، وتحويلها في النهاية إلى “إرشادات طوعية”.
هذا التحول ليس تفصيلاً تقنيًا، بل هو انعكاس مباشر لغياب الإجماع داخل المؤتمر، وفشل النهج المتشدد في الحصول على تأييد كافٍ.
إذا كانت منظمة الصحة العالمية تنوي إصدار قرارات حاسمة، فإن ما خرج به المؤتمر في النهاية كان أقرب إلى “تسوية سياسية” تهدف إلى تجنب انقسام علني بين وفود الدول.
ماذا يعني هذا على أرض الواقع؟
- الدول باتت أكثر حرية في صياغة سياساتها الخاصة.
- مواقف منظمة الصحة العالمية (WHO) لم تعد تُعتبر “مرجعًا نهائيًا” في موضوع النيكوتين كما كانت سابقًا.
- باب النقاش العلمي الذي أُغلق لسنوات، فُتح من جديد داخل الساحة الدولية.
بل إن بعض المراقبين وصفوا نتائج مؤتمر COP11 بأنها أول إشارة حقيقية إلى فقدان منظمة الصحة العالمية قدرتها على فرض رؤية واحدة على جميع الدول فيما يتعلق بمستقبل تنظيم النيكوتين.
الأدلة العلمية وتجارب الدول
بينما كانت منظمة الصحة العالمية تدفع لسنوات نحو تشديد القيود على كل ما يتعلق بالنيكوتين، ظهر تيار علمي عالمي أثبت أن مقاربة مختلفة تمامًا قد تكون أكثر نجاحًا: سياسات تقليل الضرر (Harm Reduction).
تقليل الضرر لا يعني تشجيع الناس على استخدام النيكوتين، بل يعني توفير منتجات أقل خطورة للمدخنين الذين لا يستطيعون أو لا يرغبون في التوقف الفوري.
هذه الفكرة، التي تتبناها جهات علمية عديدة، أصبحت الآن محور الجدل العالمي بعد COP11.
ماذا تقول الأدلة؟
البيانات العلمية المتاحة خصوصًا من بريطانيا ونيوزيلندا وبعض الدول الأوروبية تُظهر ما يلي:
- السجائر الإلكترونية تحمل مخاطر أقل بكثير من السجائر التقليدية (بحسب تقييمات الصحة العامة البريطانية ووكالات علمية أخرى).
- التحول إلى منتجات تبخير أو بدائل نيكوتين يمكن أن يُخفض التعرض للسموم المرتبطة بالتبغ المحترق.
- كثير من المدخنين يقلعون نهائيًا عن السجائر بعد تحول تدريجي نحو منتجات أقل ضررًا.
- القيود المفرطة يمكن أن تدفع المستهلكين إلى السوق السوداء أو تعيدهم للسجائر التقليدية.
هذه الأدلة لم تأتِ من مصدر واحد، بل من عشرات الدراسات والمراجعات العلمية خلال السنوات الماضية.
نيوزيلندا: نموذج يعتمد الأدلة وليس الخوف
خفض التدخين عبر تشجيع التحول إلى منتجات أقل ضررًا.
النتيجة؟
انخفاض كبير في معدلات التدخين، حتى أعلنت الحكومة أنها في طريقها لتحقيق واحدة من أسرع نسب الانخفاض في العالم.
هذا النجاح لم يكن ممكنًا في ظل استراتيجية “الصفر نيكوتين” التي تدعو إليها منظمة WHO، بل عبر استراتيجية “صفر تدخين” القائمة على التحول نحو بدائل أقل خطورة.
السويد: أول دولة تقترب من “مجتمع بلا تدخين”
هي الدولة الأوروبية الوحيدة التي وصلت إلى مستوى تدخين منخفض جدًا قريب من تعريف “مجتمع بلا تدخين”.
السبب في ذلك اعتمادها تاريخيًا على منتجات النيكوتين منخفضة الضرر، بدل الاعتماد الحصري على سياسات الحظر والمنع.هذا النجاح السويدي أصبح الآن أحد أبرز الأمثلة التي تستخدمها الدول المعارضة للنهج المتشدد داخل منظمة الصحة العالمية، لأنه يثبت أن انخفاض التدخين يمكن أن يتحقق دون اللجوء إلى حظر المنتجات البديلة.
هل هذه النماذج قابلة للتكرار عالميًا؟
الأدلة تقول نعم.
وما يجري في نيوزيلندا والسويد يثبت أن السياسات المبنية على العلم وليس الخوف يمكن أن تغيّر معدلات التدخين بشكل جذري.
في المقابل، السياسات التي تسعى إلى فرض قيود شاملة دون تمييز بين المنتجات تساهم غالبًا في:
- استمرار نسب التدخين دون انخفاض ملحوظ،
- ازدهار السوق السوداء،
- عودة المدخنين إلى التبغ المحترق.
هذا التناقض بين الواقع والنهج العالمي الرسمي كان أحد أسباب الخلافات التي ظهرت بقوة في COP11.
خلاصة القول :
مؤتمر COP11 لم يكن مجرد اجتماع دوري لمناقشة سياسات مكافحة التبغ، بل كان علامة فارقة كشفت عن أزمة ثقة متنامية داخل المجتمع الدولي تجاه النهج المتشدد لمنظمة الصحة العالمية.
تحول المؤتمر من قرارات إلزامية إلى إرشادات طوعية لم يكن خطوة إجرائية عادية، بل كان اعترافًا بأن فرض السياسات الصارمة لم يعد يحظى بالإجماع الذي تمتعت به المنظمة سابقًا.
في المقابل، أثبتت الأدلة العلمية وتجارب دول مثل نيوزيلندا والسويد أن تقليل الضرر ليس فكرة هامشية أو دعائية، بل هو نهج عملي حقق نجاحات ملموسة في خفض معدلات التدخين.
هذا النجاح أصبح الآن يفرض نفسه على النقاش العالمي، ويجبر المؤسسات الدولية بما فيها WHO على إعادة النظر في سياساتها التقليدية.
المدخنون اليوم بحاجة إلى حلول حقيقية، وليس إلى أيديولوجيات جامدة. والسياسات التي تمنع البدائل الأقل ضررًا أو تضعها في خانة واحدة مع السجائر التقليدية لا تخدم الصحة العامة، بل تعرقلها.
ربما يكون مؤتمر COP11 بداية مرحلة جديدة في التعامل مع النيكوتين عالميًا مرحلة تعترف بأن الطريق نحو “عالم بلا تدخين” لا يمر عبر الحظر فقط، بل عبر توفير خيارات عملية وآمنة تقلّل الضرر وتحمي حياة الملايين.





