لم يعد تأثير التدخين في منطقة الخليج مجرد قضية صحية عابرة أو ملفّ فرعي داخل نقاشات الصحة العامة، بل أصبح موضوعاً يستدعي تحليلاً معمقاً بعد صدور دراسة جديدة تتناول ثلاثين عاماً من الوفيات المرتبطة بالتبغ في دول الخليج العربي.

ما يميز هذه الدراسة أنها لا تنظر إلى التدخين من زاوية انتشاره فقط، بل تفحص النتيجة الأهم والأخطر: عدد الوفيات التي يمكن نسبتها مباشرة إلى استهلاك التبغ بين عامي 1990 و 2019، مع رسم اتجاهات واضحة لتوزيع المخاطر بين الفئات العمرية والدول، ما يجعلها مرجعاً أساسياً لفهم حقيقة الأزمة وحدّة تأثيرها.

تُظهر الدراسة أن التدخين لا يزال يشكل سببا للوفيات في العديد من دول المنطقة. في حين تستقر بعض الدول عند مستويات أقل نسبيًا، تُسجّل أخرى ارتفاعاً ملحوظاً في الوفيات، خصوصاً بين كبار السن. كما تقدّم الدراسة نظرة تحليلية تعكس تراكم الضرر عبر العقود.

هذه النتائج، إلى جانب سياقها الإقليمي والسكاني، تفتح الباب أمام سؤال محوري: هل حان الوقت لاعتماد حلول بديلة للحد من هذا العبء؟ وهل يمكن أن تلعب بدائل النيكوتين، بما فيها السجائر الإلكترونية، دوراً في تغيير المسار؟

تفاصيل الدراسة : المنهجية والنتائج وأبعادها

مقارنة معدلات الوفيات
مقارنة معدلات الوفيات المنسوبة إلى التدخين لكل 100,000 نسمة في دول الخليج (2019)؛ المعدلات المعيارية حسب العمر للبحرين والكويت وعمان وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، استنادًا إلى مجموعة بيانات العبء العالمي للأمراض لعام 2019

اعتمدت الدراسة على قواعد بيانات عالمية واسعة النطاق، خصوصاً تلك المعتمدة في مشروع “عبء المرض العالمي” الذي يوفر تقديرات دقيقة للوفيات والأمراض عبر الدول والفترات الزمنية. من خلال هذه البيانات، قامت الدراسة بتحليل الوفيات المرتبطة بالتدخين في دول الخليج العربي، وهي: السعودية، الإمارات، الكويت، البحرين، قطر، وعُمان. ومقارنةً بفترات سابقة، سعت الدراسة إلى فهم كيفية تغيّر معدلات الوفيات عبر العقود الثلاثة الماضية، وربطها بالعمر و باختلاف السياسات العامة داخل كل دولة.

أحد أكثر الأرقام اللافتة التي عرضتها الدراسة كان ارتفاع نسبة الوفيات المرتبطة بالتدخين في البحرين والكويت تحديداً. ففي عام 2019، وصلت نسبة الوفيات المنسوبة للتبغ في هاتين الدولتين إلى 14.3% من إجمالي الوفيات، وهي نسبة مرتفعة للغاية بالنظر إلى تطور الأنظمة الصحية ومستوى الوعي الصحي في المنطقة. ويمثّل هذا الرقم دلالة واضحة على حجم المشكلة وصعوبة تجاهلها.

كما كشفت الدراسة عن معدلات مرتفعة للوفيات ضمن الفئة العمرية الأكبر من 70 عاماً، حيث تجاوز المعدل 1300 وفاة لكل 100 ألف نسمة في بعض الدول. هذا يعني أن من يبدأ التدخين في سن مبكرة ويستمر فيه لسنوات طويلة يكون معرّضاً لمخاطر قاتلة مع تقدّم العمر، وهو أمر يتوافق مع الأبحاث الطبية التي تؤكّد التأثير التراكمي للتدخين على الرئتين والقلب والأوعية الدموية.

أما بالنسبة للدول الأخرى، مثل السعودية وعُمان، فقد أظهرت الدراسة استقراراً نسبياً في معدلات الوفيات المرتبطة بالتدخين، مع كونها أقل مقارنة بالبحرين والكويت. لكن هذا “الاستقرار” لا يعني غياب المشكلة، بل يشير فقط إلى أن معدل الضرر لم يزداد بشكل كبير، وهو ما لا يُعدّ بحد ذاته مؤشراً إيجابياً، بل يعكس حاجة مستمرة لمزيد من التدخلات الصحية.

ما تكشفه الدراسة في العمق هو وجود علاقة مباشرة بين التحولات السكانية وأثر التدخين على كبار السن. فارتفاع متوسط العمر في دول الخليج، و تطور الرعاية الصحية، يعنيان أن المزيد من الناس يعيشون لفترة أطول، وبالتالي تظهر لديهم أمراض مرتبطة بالتدخين تراكمت آثارها عبر العقود. وهذا يفسّر الارتفاع الكبير في الوفيات بين الفئة العمرية المتقدمة.

ومن زاوية تحليلية، تُظهر البيانات أن الدول التي شهدت خلال العقود الماضية ارتفاعاً كبيراً في معدلات التدخين بين الشباب والبالغين تدفع ثمناً صحياً واضحاً، بينما الدول التي تبنّت مبكراً سياسات صارمة ضد التدخين حتى لو كانت محدودة تملك معدلات وفيات أقل نسبياً. هذه المقارنة غير المباشرة تعطي فكرة عن كيف تصنع السياسات العامة فارقاً كبيراً في معدلات المرض والموت بعد سنوات طويلة.

هل يمكن لبدائل النيكوتين (السجائر الالكترونية) إن تغيّر المشهد؟

أمام هذا العبء الثقيل، يصبح من الطبيعي طرح سؤال البدائل: هل يمكن للتحول نحو وسائل نيكوتين أقل ضرراً (وعلى رأسها السجائر الإلكترونية) أن يغيّر معدلات الوفيات بسبب التدخين في الخليج خلال العقود القادمة؟ وهل يمكن الاستفادة من تجارب دول نجحت بالفعل في تقليل أعداد المدخنين عبر سياسات تعتمد على “البدائل” وليس المنع وحده؟

تجربة المملكة المتحدة تعدّ من أبرز النماذج العالمية. فالدولة تبنّت منذ سنوات موقفاً واضحاً يعتبر السجائر الإلكترونية وسيلة أقل ضرراً بكثير من التدخين التقليدي، وسمحت للأطباء باقتراحها كخيار ضمن برامج الإقلاع عن التدخين. ومع مرور الوقت، انخفضت معدلات التدخين بشكل ملحوظ، خصوصاً بين الفئات العمرية الشابة، بينما لم تظهر أي زيادة في الوفيات التي يمكن ربطها مباشرة باستخدام الفيب.

أما نيوزيلندا فقد اعتمدت نهجاً مزدوجاً: تشديد ضرائب التبغ التقليدي إلى مستوى مرتفع جداً، وتسهيل الوصول إلى بدائل أقل ضرراً. ومع أن البلاد تمر اليوم بنقاشات جديدة حول السياسات، فإن التجربة السابقة نجحت في خفض معدلات التدخين إلى مستويات تاريخية.

ثم تأتي السويد، التي تُعدّ حالة عالمية فريدة، حيث نجحت في تقليل الوفيات المرتبطة بالتدخين بشكل كبير عبر الاعتماد على بدائل النيكوتين التقليدية مثل “السنوس”، وصولاً إلى أن تصبح الدولة الأقرب إلى “مجتمع بلا تدخين”. نموذج السويد مهم لأنه يؤكد أن التحول الجماعي نحو بديل أقل ضرراً قد ينعكس بشكل مباشر على معدلات الوفيات.

من هذه التجارب الثلاث تتضح رسالة واحدة: خفض الوفيات لا يتحقق فقط بمنع التدخين أو رفع الأسعار، بل بتحويل المدخنين نحو منتجات أقل ضرراً بنسبة كبيرة، وبشكل منظم وآمن ومراقب من الدولة.

في السياق الخليجي، الذي أظهرت الدراسة فيه ارتفاعاً كبيراً للوفيات المرتبطة بالتدخين، يمكن أن تكون هذه البدائل جزءاً من استراتيجية متكاملة، خاصة إذا كانت السياسات الحالية لا تجذب المدخنين نحو الإقلاع. ومع ذلك، يبقى اعتماد هذه البدائل بحاجة إلى ضبط وتنظيم وتوعية، بعيداً عن الفوضى أو الاستخدام غير المنضبط.

خلاصة القول

تكشف الدراسة عن حقيقة واضحة: التدخين يواصل حصد أرواح الآلاف في الخليج، وبمعدلات مرتفعة خاصة بين كبار السن، بينما تتحمل دول مثل الكويت والبحرين العبء الأكبر. أرقام الوفيات، التي بلغت أكثر من 14% من إجمالي الوفيات في بعض الدول، ليست مجرد مؤشرات إحصائية، بل تمثل واقعاً صحياً خطيراً يتطلّب تدخلاً فورياً.

في ظل هذه الصورة، يصبح الحديث عن بدائل النيكوتين ليس أمرا هينا ولا محاولة لتجميل الواقع، بل خياراً عملياً مدعوماً بتجارب دول نجحت في تقليل الوفيات عبر التحول نحو منتجات نيكوتين أقل ضرراً.

وإذا أرادت دول الخليج إعادة تشكيل مستقبلها الصحي وتقليل العبء المتوقع خلال السنوات القادمة، فإن تبنّي مقاربة واقعية تجمع بين الوقاية، والتنظيم، وتقديم خيارات بديلة للمدخنين سيكون الطريق الأكثر فعالية لوقف النزيف الصحي الذي تكشفه هذه الدراسة بوضوح.

اشترك في النشرة الإخبارية

انضم إلى اكثر من 8000 مشترك في نشرة اخبار Vaping Post. لتبقى على اطلاع بجميع أخبار السجائر الالكترونية

الاشتراك
نبّهني عن
guest
0 Comments
الأحدث
الأقدم الأكثر تصويت
Inline Feedbacks
عرض جميع التعليقات