في عالمٍ يسير بخطى متسارعة نحو الرقمنة، بات الذكاء الاصطناعي (AI) يتغلغل في كل جانب من جوانب الحياة، من تشخيص السرطان إلى تحليل أنماط النوم. واليوم، يحاول العلماء توظيفه في أحد أكثر التحديات الإنسانية تعقيدًا: مساعدة المدخنين على الإقلاع عن التدخين.
لكن السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان الذكاء الاصطناعي قادرًا على مساعدة المدخنين، بل ما إذا كان قادرًا على فهمهم حقًا؟
فبين الخوارزميات الباردة والمشاعر البشرية المعقدة، تبرز فجوة يصعب ردمها. ورغم أن النتائج الأولية مشجعة، إلا أن التجربة تُظهر أن الإقلاع عن التدخين لا يحتاج إلى بيانات فقط، بل إلى تعاطف إنساني لا يمكن للآلة محاكاته بعد.
الذكاء الاصطناعي يدخل عالم مكافحة التدخين
وتُشير الأرقام إلى أن نحو 45٪ من هذه المبادرات تتماشى مع المادة 14 من اتفاقية منظمة الصحة العالمية الإطارية لمكافحة التبغ (FCTC)، التي تلزم الدول بتطوير خدمات فعالة للإقلاع والدعم السلوكي.
من بين المشاريع الأكثر طموحًا، نجد نظام “فلورنس” (Florence) الذي أطلقته منظمة الصحة العالمية، والذي قمنا بتغطيته في هذا المقال. وهو عبارة عن مساعد رقمي يعتمد على الذكاء الاصطناعي قادر على التفاعل صوتيًا مع المستخدمين، وتقديم نصائح شخصية وخطط زمنية للإقلاع. كما أن هناك تطبيقات أخرى مثل QuitGenius وSmokeFreeAI التي تستخدم التعلم الآلي لتحليل عادات التدخين اليومية وتقديم اقتراحات فورية حول كيفية تجنب الانتكاس.
ومع ذلك، يبقى جوهر السؤال: هل يمكن لهذه الأنظمة الرقمية أن تُحدث نفس التأثير النفسي والعاطفي الذي يتركه التواصل البشري المباشر؟
فالإقلاع عن التدخين ليس مجرد قرارًا بقدر ما هو رحلة إنسانية مليئة بالتقلبات، حيث تلعب الارادة الشخصية، الدعم النفسي، والتعاطف دورًا لا يمكن استبداله بالذكاء الاصطناعي وحده.
الآلة تُحلل … لكنها لا تشعر
في واحدة من أكبر التحليلات التراكمية في هذا المجال، شملت خمس تجارب عشوائية على أكثر من 59 ألف مشارك، وُجد أن الأشخاص الذين استخدموا أدوات مدعومة بالذكاء الاصطناعي زادت احتمالات نجاحهم في الإقلاع بنسبة 29٪ مقارنة بمن لم يتلقوا أي دعم رقمي.
نتائج مشجعة بلا شك، لكنها تُخفي وراءها حقيقة دقيقة: الآلة يمكنها أن تحلل السلوك، لكنها لا يمكن أن تشعر به. الذكاء الاصطناعي يُبدع في رصد الأنماط الدقيقة، مثل أوقات التدخين الأكثر تكرارًا أو الحالات المزاجية المرتبطة بالرغبة في السيجارة، لكنه لا يستطيع إدراك ما يشعر به المدخن حين يقرر أن “هذه المرة ستكون الأخيرة”. لا يمكنه أن يسمع الارتجافة في الصوت، أو يرى التردد في العيون، أو يقدّر حجم الصراع الداخلي.
هذه الفجوة بين الفهم الحسابي والفهم الإنساني هي ما يجعل بعض الخبراء يحذرون من المبالغة في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي وحده. فحتى لو كانت الخوارزميات قادرة على التنبؤ، فإنها لا تستطيع التعاطف — والفرق بين الاثنين قد يكون حاسمًا في رحلة الإقلاع.
بين الفوائد والمخاطر
لا يمكن إنكار أن الذكاء الاصطناعي يقدم فرصًا هائلة للقطاع الصحي، لكن هذه الفرص لا تخلو من التحديات الأخلاقية والتقنية.
أولًا، مسألة الخصوصية : فالتطبيقات التي تتابع سلوك المستخدمين وتجمع بيانات عن عادات التدخين، النوم، والضغوط النفسية، قد تتحول بسهولة إلى أدوات تجارية إذا وقعت في الأيدي الخطأ. شركات التبغ أو الإعلانات الرقمية قد تستخدم هذه البيانات لاستهداف هذه الفئات الضعيفة، كالمراهقين أو المدخنين السابقين، بحملات تسويقية ذكية يصعب مقاومتها.
ثانيًا، التحيّز الخوارزمي : تعتمد أنظمة الذكاء الاصطناعي على بيانات سابقة، وغالبًا ما تكون هذه البيانات غير شاملة للجميع. فإذا كانت العينة مبنية على سكان دول متقدمة أو فئات اجتماعية محددة، فإن النتائج والتوصيات قد تكون مختلفة تمامًا في بيئات أخرى.
ثالثًا، هناك خطر الاعتماد المفرط على الحلول الرقمية. عندما يتحول الدعم النفسي إلى تفاعل مع شاشة فقط، يفقد العلاج أحد أهم عناصره: التواصل الإنساني. بعض المدخنين قد يشعرون بالعزلة أو فقدان الثقة إذا لم يجدوا إنسانًا حقيقيًا يتفهم مخاوفهم، مما قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
لهذا، يرى عدد متزايد من الباحثين أن دور الذكاء الاصطناعي يجب أن يبقى “مساعدًا” لا “بديلًا”، وأداة لتحسين الفعالية وليس لاستبدال العنصر البشري بالكامل.
التكنولوجيا وحدها لا تكفي
في السنوات الأخيرة، أظهرت تجارب من الطب النفسي والسلوكيات الصحية أن أفضل النتائج تتحقق عند دمج الذكاء الاصطناعي مع التفاعل البشري.
ففي بريطانيا، على سبيل المثال، تُستخدم أنظمة الذكاء الاصطناعي لمتابعة المرضى بين الجلسات العلاجية، حيث تقوم بتحليل بيانات النوم أو معدل ضربات القلب وترسل إشعارات للمعالج البشري عند اكتشاف علامات انتكاس أو إجهاد. هذا التكامل بين التقنية والعاطفة هو ما يجعل النتائج أكثر استقرارًا واستدامة.
نفس النموذج يمكن تطبيقه في مجال الإقلاع عن التدخين: برنامج رقمي يُراقب السلوك اليومي، يرسل تنبيهات ذكية عند ارتفاع الرغبة في التدخين، ويُبلغ المستشار الصحي ليقوم بالتواصل الفعلي.
إن الذكاء الاصطناعي بارع في “متى” و”كم”، لكنه يحتاج إلى الإنسان ليُجيب على “لماذا” و”كيف”. فالقوة الحقيقية ليست في قدرة البرنامج على إعطاء النصائح، بل في قدرته على تعزيز التواصل بين البشر. عندها فقط يصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا في الحل، لا جزءًا من المشكلة.
ما بين الإغراء التكنولوجي والواقع الإنساني
هناك حماس كبير في الأوساط العلمية والحكومية لاعتماد حلول الذكاء الاصطناعي في كل ما يتعلق بالإقلاع عن التدخين. ويبدو هذا الحماس مبررًا من حيث الكفاءة والتكلفة وسرعة الوصول.
لكن لا ينبغي أن يُنسينا هذا الحماس أن التدخين ظاهرة إنسانية في جوهرها، تتشابك فيها العادات الاجتماعية، الضغوط النفسية، والعلاقات الشخصية.
التكنولوجيا يمكن أن تدعم القرار، لكنها لا تستطيع أن تمنحه المعنى. فمنذ أن وُجدت أول سيجارة وحتى اليوم، يظل الإقلاع عن التدخين قرارًا يتخذه الإنسان مع نفسه — لا مع خوارزمية. كل ما يمكن أن تفعله التقنية هو أن تضع أمامه الأدوات، أما الإرادة فتبقى إنسانية خالصة.
خلاصة القول :
الذكاء الاصطناعي بلا شك أداة قوية يمكن أن تُحدث تحولًا كبيرًا في مجال الإقلاع عن التدخين، لكنه لا يمكن أن يحل محل القلب البشري الذي يرافق المدخن في رحلته نحو الحرية.
تُظهر التجارب أن الجمع بين الذكاء الاصطناعي والدعم الإنساني هو الطريق الأمثل: التكنولوجيا تُقدّم البيانات، والإنسان يُقدّم الفهم.
قد تتطور الآلات يومًا لتتعلم الحديث مثلنا، لكنها لن تتعلم الإصغاء مثلنا. وبين الذكاء والإنسانية، يظل الإقلاع عن التدخين فعلًا إنسانيًا بامتياز، لا يتحقق إلا حين تتضافر الإرادة مع الفهم — والعقل مع القلب.