شهد العراق خلال السنوات الماضية سلسلة من الإجراءات الرسمية للحد من انتشار السجائر الإلكترونية -الفيب. فقد أصدرت وزارة الصحة العراقية قرارات حظر تمنع استيراد وتداول هذه المنتجات بشكل كامل، ضمن جهود مكافحة التدخين وحماية الصحة العامة.
واستندت دوائر الصحة في المحافظات إلى تلك القرارات لمنع بيع أو شراء السجائر الإلكترونية بجميع أنواعها، ً مهددة المخالفين للمساءلة القانونية. على سبيل المثال، أعلنت دائرة صحة كركوك عام 2013 استنادا إلى قرار صادر عن وزارة الصحة يقضي بمنع التداول بأسواق المدينة، محذرة من الأضرار البالغة عرف بـ”قرار الحظر السابع“ ضمن جهود الوزارة في مكافحة منتجات التبغ الحديثة. وجاءت هذه الخطوة التي مثلت استجابة مبكرة للتحذيرات الإقليمية والدولية بشأن مخاطر الـفيب.
مخاوف وزارة الصحة من الفيب
بررت وزارة الصحة والجهات الصحية المختصة قرار الحظر بالتركيز على حماية الفئات الصغيرة في السن من المراهقين والوقاية من المخاطر الصحية المحتملة. ورأى المسؤولون أن السجائر الإلكترونية تستهدف الشباب عبر نكهات ّجذابة والتسويق المضلل، مما قد يؤدي إلى إدمان النيكوتين ويشكل طريقا للتدخين في سن مبكرة.
ووصفت عضوة لجنة الصحة النيابية زينب – قنابل ُسّم تفتك بالشباب بصمت-. وحذرت الموسوي من تأثيرات أجهزة الفيب بأنها مغلفة بنكهات طبيعية وأن هذه المنتجات خطيرة على الجهاز التنفسي، لكونها قد تزيد احتمالية الإصابة بالربو والتهاب القصبات، وربما تهدد الحياة.
كما أشارت وزارة الصحة إلى تقارير علمية عالمية تربط بعض أنواع السجائر الإلكترونية بحوادث مرضية مثل إصابات الرئة الحادة إضافة إلى احتوائها مواد كيميائية قد تسبب أمراضا سرطانية على المدى البعيد. وأوصت بمنع وصول المنتجات لهم، رافقها تأكيد على حماية القاصرين.
دعت الموسوي أيضا الجهات التشريعية بالتوازي على منع بيع السجائر التقليدية والإلكترونية لمن هم دون 18 ً عاما ضمن التعديلات المقترحة لقانون مكافحة التبغ.
آثار الحظر: سوق سوداء وضعف الرقابة
على الرغم من النوايا الحسنة وراء حظر الفيب، ظهرت آثار سلبية غير مقصودة على أرض الواقع. إذ لم يؤد المنع التام إلى اختفاء السجائر الإلكترونية من السوق العراقية، بل بالعكس نشطت السوق السوداء لتلبية طلب المستهلكين.
فقد تم إدخال كميات كبيرة من أجهزة الـ Vape والسوائل الخاصة بها بشكل غير قانوني بعيدا عن أعين الجهات الرقابية، مما جعلها متوفرة بشكل غير رسمي وبدون أي رقابة صحية. دفع هذا الوضع السلطات إلى شن حمالت لضبط هذه المنتجات المهربة.
ففي أربيل – على سبيل المثال – صادرت لجان التفتيش أكثر من 50 ألف جهاز فيب خلال حملة ميدانية، وقامت بإتلاف ما يزيد عن 8 آلاف منها دفعة واحدة. اتخذت كذلك إجراءات صارمة ضد المحال التي تبيع هذه الأجهزة بشكل غير قانوني، شملت إغلاق المتاجر وفرض غرامات على أصحابها.
وترى جهات مختصة أن الحظر الشامل لم يوقف الظاهرة بقدر ما دفعها إلى الازدهار لكن في الظل، حيث استمر الاستخدام بشكل غير معلن ومن دون أي ضوابط أو معايير، الأمر الذي يشكل خطرا أكبر على صحة المستهلكين. بهذا أصبحت الدولة أمام مشكلة أكبر، عبر خلق سوق فوضوي مليء بمنتجات خالية من أي تحذيرات صحية أو تحديد لأعمار محددة، الأمر الذي قوض الهدف الأساسي للحظر.
قرار مجلس الوزراء بتقنين السجائر الإلكترونية

أمام تلك المعطيات، جاء قرار مجلس الوزراء العراقي الأخير ليغير النهج المتبع في التعامل مع ملف الفيب. ففي جلسة المجلس الحادية والعشرين لعام 2025 التي ُعقدت في 27 أيار / مايو برئاسة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، تقرر إلغاء المنع المفروض على استيراد السجائر الإلكترونية بأنواعها.
السماح بالاستيراد والتداول لمنتجات السجائر الإلكترونية وأجهزة الأراجيل الإلكترونية و التبغ ّ المسخن، شرط عدم تعارض ذلك مع قانون مكافحة التدخين رقم 19 لسنة 2012 والتعليمات النافذة. وقد ورد في بيان المكتب الاعلامي لرئيس الوزراء أن الموافقة جاءت على قيام وزارة الصحة بـ إلغاء المنع على الاستيراد لهذه السلع، مع وضع ضوابط صارمة تضمن الالتزام بالقوانين الصحية.
كماّ تضمن القرار تكليف الجهاز المركزي للتقييس والسيطرة النوعية بوضع المواصفات القياسية والفنية الواجب توافرها في أجهزة السجائر الإلكترونية المستوردة، لضمان الجودة والسالمة. وبموازاة ذلك، أوعز المجلس للهيئة العامة للكمارك الجمارك بتحديد الرسوم الجمركية المناسبة على هذه البضائع، بهدف السيطرة على الكميات الداخلة وتقليل الإغراق السلعي في الأسواق.
ومن جانب آخر، جرى التنسيق مع الملحقيات التجارية العراقية في الخارج لتفعيل آلية تصديق شهادات المنشأ والفواتير الخاصة بالشحنات المستوردة وإدخالها ضمن نظام إلكتروني وطني، وذلك لتسهيل إجراءات الإدخال لضمان تتبع البضائع بشكل شفاف.
بهذه الحزمة من القرارات، وضعت الحكومة إطار هذه المنتجات بشكل قانوني وبين إحكام الرقابة الرسمية على جودتها وتداولها.
من الفوضى إلى الانضباط : دوافع التوجه الجديد
أشارت رئاسة الوزراء عبر بيانها وتصريحات مسؤوليها إلى أن الهدف من رفع الحظر ليس التساهل مع ظاهرة التدخين الإلكتروني، بل تنظيم السوق وضبطه ضمن الأطر القانونية. فبعد التجربة السابقة، تبين ان السوق غير المنظم ينشط بسرعة في ظل الفراغ الرقابي، مما يفاقم الفوضى بدل الحد منها.
من هذا المنطلق، رأت الحكومة أن السماح المدروس بالاستيراد تحت أعين الدولة أفضل من بقاء الفيب منتشرا في الخفاء . وقد أوضح محللون أن هذه الخطوة تعكس مرونة سياسية وإدارية لدى الحكومة العراقية في التعاطي مع الملفات الحساسة.
الحفاظ على الصحة العامة من جهة و الاعتبارات الاقتصادية من جهة أخرى، اختارت الحكومة تبني حلول واقعية تأخذ بالاعتبار جميع هذه الأبعاد. كما يبدو أن قرار مجلس الوزراء جاء استجابة لتوصيات جهات معنية فبحسب وكالة الأنباء العراقية الرسمية، أوصت الهيئة العامة للجمارك برفع المنع بشرط إخضاع المنتجات للرقابة الصحية والفنية الصارمة، في إطار مراجعة أشمل للسياسات الجمركية والضريبية تستجيب لمتغيرات السوق وحاجات المواطنين.
وبالفعل، تبنت الحكومة هذا التوجه لضبط الملف بدلا من تركه خارج نطاق القانون، في محاولة لاحتواء التوتر الذي برز بين السلطتين التشريعية والتنفيذية حول قضية السجائر الإلكترونية. فالسلطة التشريعية عبر لجنة الصحة النيابية كانت تميل إلى تشديد المنع، بينما اختارت السلطة التنفيذية طريق التنظيم المدروس، مما يستدعي تنسيقا بين الجانبين للوصول إلى أفضل صيغة تحمي المجتمع دون الإضرار بالحريات أو الاقتصاد.
ردود الفعل في الشارع

لاقى التحول الحكومي في سياسة التعامل مع الفيب ترحيب كبير من من قبل شريحة واسعة من المدخنين والباعة. من مستخدمي السجائر الإلكترونية وأصحاب المتاجر المتخصصة ايضا.
فخلال فترة تصاعد الحديث عن الحظر الشامل، أعرب الكثير من المستخدمين وأصحاب المحال عن غضبهم وقلقهم , معتبرين الحظر تهديدا لحريتهم الشخصية ومصدر رزقهم.
أحد بائعي أجهزة الفيب وصف القرار النيابي (قبل إلغائه) بأنه ”صادم ومفاجئ“ وقد يضطرهم لإغلاق أعمالهم أو اللجوء للبيع سرا.
وعبّر العديد من مستخدمي السجائر الإلكترونية عن ارتياحهم لهذا القرار، خاصة من اختاروها كبديل يساعدهم على تقليل أضرار التدخين أو الإقلاع عنه. بالنسبة لهؤلاء، العودة إلى السجائر التقليدية لم تكن خيارًا مطروحًا، وكان الحظر يهدد جهودهم في الإقلاع عن التدخين.
مقابلة خاصة مع د. محمد معين

في محاولة لفهم أبعاد القرار الحكومي الأخير من وجهة نظر المتخصصين وأصحاب الخبرة في قطاع الفيب، أجرينا مقابلة حصرية مع الدكتور محمد معين، صيدلاني ومؤسس شركة هيز فيب – HAZE VAPE، وهي إحدى أبرز الجهات الفاعلة في هذا المجال داخل العراق وفي عدد من الدول في الشرق الاوسط. يقدّم د. معين رؤيته حول واقع السوق، وتداعيات الحظر، وأهمية التحول نحو التنظيم، كما يعلّق على التحديات المقبلة والفرص المتاحة للاقتصاد والمستهلكين على حد سواء.
1. كيف تقرأ قرار الحكومة العراقية برفع الحظر عن الفيب في ظل حالة الفوضى عمت السوق؟
السوق كان غارقا ببضائع رديئة، ومجهولة المصدر، كثير منها يُباع في الشارع وعلى مواقع التواصل بدون رقابة. المستهلك صار ضحية، والتاجر الحقيقي خسر مكانه. هذا القرار أعاد التوازن، لأنه يخدم التجار اللي يشتغلون بالمنتجات الأصلية والمعروفة، ويبعد الفوضى عن السوق.
2. هل تعتقد أن توقيت القرار جاء لمعالجة الضغط من التهريب وتذبذب الأسعار داخل السوق؟
نعم، والقرار جاء في الوقت الصحيح تمامًا. السوق كان يستنزف أموال الناس و يضخها خارج الإطار الرسمي للدولة. الآن، هذه المصلحة تتحول من سوق فوضوي إلى مورد رسمي وإيراد شرعي يعود على الدولة والمستهلك بتنظيم واستقرار.
3. بوجود تجربة السوق السوداء بالأجهزة والنكهات، هل تعتقد أن التنظيم فعلاً قادر على ضبط الفوضى؟
التنظيم هو الحل الوحيد، لكن بشرط التطبيق الصحيح. إذا المحلات المرخصة أخذت شرعيتها، والمهرب تمت محاسبته، سينتقل تلقائيًا إلى سوق نقي ومنضبط.
4. أنت كنت من الأصوات اللي طالبت بالتنظيم… اليوم وبعد القرار، هل ترى أن رأيكم أخذ دور فعلي؟
نعم، وبكل صراحة. قلناها من أول يوم: لا نريد الحظر، نريد قانون يحمينا ويحمي المستهلك. واليوم، نشوف ثمرة هذا الموقف في قرار رسمي صدر من أعلى جهة تنفيذية.
5. من خلال خبرتك في التعامل مع مئات المحلات والتجار، ماهو رأيك بأثر القرار على الاقتصاد المحلي والتجار الصغار؟
القرار أعاد الثقة للتاجر الحقيقي. سيتمكن من الشراء علنًا، والبيع بدون خوف، ويخطط لمشروع طويل الأمد. ومن الناحية الاقتصادية كل منتج يدخل من بوابة جمركية رسمية هو دخل حقيقي للدولة.
6. هل ترى أن الحكومة حالياً صارت تتعامل مع قطاع الفيب كباقي القطاعات الاقتصادية الرسمية؟
بالتأكيد. القرار خرج من مجلس الوزراء، والمواصفات تتحرّك، والجمارك تستعد للتنفيذ. وهذا كله يعني شيء واحد: الدولة تعتبر الفيب الآن جزء من الاقتصاد الرسمي.
7. في ظل وجود آلاف القاصرين ممن كانوا يشترون من السوق السوداء، هل ترى التنظيم سيحمي فعلاً هذه الفئة؟
أحد أسباب محاولة الحظر من وزارة الصحة هو الانتشار بين القاصرين، وهذا حقيقي وخطير. لكننا قلناها، ونؤكد مرة اخرى: *الحظر هو من سهّل للقاصر الحصول على الفيب، وليس الترخيص. وقت الحظر، كانت الأسعار رخيصة لأن المهرب لا يدفع رسوم، والوصول سهل. التنظيم يجعل المنتج تحت الرقابة، والسعر ينعكس على الجودة، ويمنع الوصول العشوائي.
8. بعد القرار، واضح أن السوق يتغير… كيف تقرأ سلوك التجار بعد هذه النقلة؟
نرى اليوم تمييز واضح بين من يعمل وفق القانون، ومن يتهرب منه. المحلات الجادة بدأت تجهّز أوراقها، تبحث عن مورد رسمي، وتحس نفسها جزء من اقتصاد حقيقي. السوق بدأ يفرز نفسه: إما تاجر منظم… أو خارج اللعبة.
9. جهات مثل الجمارك والمواصفات، هل بدأت تتحرك فعلاً على الأرض حسب ما وعدت به الحكومة؟
حالياً نعيش مرحلة رمادية، القرار صدر، لكن التطبيق الكامل بانتظار تفعيل المواصفات والتعرفة الجمركية. نأمل من الجهات المعنية أن تُسرّع الإجراءات، كما أوصى رئيس الوزراء، ليأخذ القرار أثره الفعلي في السوق.
10. كونك صيدلاني وتعرف أضرار التبغ… برأيك، كيف يمكن للدولة توصيل رسائل توعية حقيقية بعد ما شرّعت السوق؟
الرسالة يجب تكون واقعية، وليست عاطفية. الفيب ليس بديل آمن 100%، لكنه أخف ضررًا من التدخين التقليدي بكثير. الدولة تحتاج أن تطلق حملات توعية حقيقية بالتعاون مع المختصين، من دون لهجة المنع والتحذير، بل توجيه وتوضيح.
11. هنالك دول طبّقت نموذج التنظيم بعد الحظر مثل الفلبين ونيوزيلندا… هل تتوقع العراق قادر ان ينافس بهذا الاتجاه؟
نعم، العراق قادر. لدينا سوق فعلي واسع، وخبرات، ومستهلكين. الفرق الوحيد هو السرعة في التنظيم. إذا أُنجزت الإجراءات بسرعة – من الممكن نكون أول دولة عربية تصنع نموذج ناجح.
12. القرار حديث، والسوق سيتغيّر … كيف تصف المرحلة الحالية وما عنوان المرحلة القادمة؟
نحن الآن في مرحلة رمادية: القرار صدر، لكن التطبيق ينتظر المواصفات والتسعيرة الجمركية. نأمل أن تسرّع الجهات الرسمية هذه الإجراءات، تماشياً مع توجيهات رئيس الوزراء.
13. كلمة أخيرة توجّهها للجهات الرسمية، و للتجار، و للمستهلكين؟
الجهات الرسمية: القرار شجاع، والناس بانتظار التنفيذ. لا تدعوا السوق يعود مرة ثانية للفوضى.
التجار: هذا وقت الالتزام، لا وقت المغامرة.
المستهلكين: صحتك اليوم مسؤوليتك، اختَر المنتج القانوني، الدقيق، الآمن… والباقي علينا.