خلال الأيام الماضية، انتشر خبر مثير في بعض الصحف الشعبية البريطانية يشير إلى أن امرأة أمريكية من ولاية جورجيا تُدعى ليديا وارد، البالغة من العمر 34 عامًا، فقدت قدرتها على الكلام والقراءة بعد استخدام السجائر الإلكترونية. ورغم أن الخبر لاقى انتشارًا واسعًا عبر وسائل الإعلام، فإن التدقيق في تفاصيله يكشف أنه لا يتجاوز حدود رواية فردية غير موثّقة، خالية من أي تقرير طبي أو مستند رسمي، ولا تحتوي على تشخيص واضح أو دليل واحد يؤكد أن السجائر الإلكترونية كانت السبب وراء ما حدث.
ومع ذلك، سارعت بعض المواقع إلى نشر عناوين مثيرة تستغل القصة لتعزيز سردية مسبقة، من نوع: “بسبب السجائر الإلكترونية… امرأة تفقد قدرتها على الكلام!”، رغم أن مضمون القصة نفسه لا يحتوي على أي إثبات.
ما القصة؟
تداولت منصات مثل The Sun و LADbible القصة كما روتها ليديا نفسها. تقول إنها كانت تستخدم الفيب بشكل اعتيادي منذ سنوات، وفي يوم الواقعة أخذت عدة سحبات في منزلها، ثم بدأت تشعر بتشوش شديد في الرؤية ودوخة وصعوبة في الكلام وتذكر الكلمات. أصيبت بالذعر واعتقدت أنها تتعرض لجلطة دماغية، فذهبت إلى قسم الطوارئ مع والدتها. وهناك خضعت لفحوصات عدة، لكنها لم تذكر نوع هذه الفحوص بالتفصيل، مكتفية بعبارات عامة مثل “اختبارات السكتة الدماغية” أو “تحاليل الدم”.
وبحسب روايتها، جاءت جميع نتائج الفحوصات سليمة، ولم يقدّم الأطباء أي تشخيص نهائي. بعد ساعات، بدأت الأعراض في الاختفاء تدريجيًا، واستعادت قدرتها على الكلام والقراءة. وهذا يعني أن الحديث عن “فقدان القدرة على الكلام” بالمعنى الطبي غير صحيح، وأن ما تعرضت له كان نوبة عابرة انتهت في اليوم نفسه. ليديا نفسها تتحدث الآن للصحافة بشكل طبيعي، دون أي آثار طويلة الأمد.
غياب تام للتقارير الطبية

رغم أن الخبر قُدّم وكأنه حالة طبية مرتبطة مباشرة بالفيب، فإن الواقع يخبرنا بالقليل جدًا. فلا يوجد أي تقرير رسمي صادر عن المستشفى، ولا تصريح من طبيب، ولا اسم طبيب معالج، ولا حتى ذكر لاسم المستشفى الذي تم استقبالها فيه.
كما لا توجد نسخة من نتائج الفحوصات أو أي وثيقة طبية تدعم ما تم تداوله، وكل ما نعرفه هو ما قالته ليديا للصحافة. هذه المعطيات تجعل القصة أقرب إلى حكاية شخصية منها إلى حالة طبية قابلة للدراسة أو التحليل العلمي. في المجال الصحي، تُعد مثل هذه القصص الفردية، عندما تكون بلا وثائق أو تقارير، غير كافية حتى لإطلاق فرضيات أولية.
هل الفيب يسبب فقدان القدرة على الكلام؟
من الناحية العلمية، لا توجد أي دراسة طبية تشير إلى أن السجائر الإلكترونية تسبب فقدان القدرة على الكلام أو اضطرابات القراءة والفهم. التأثيرات الحادة المعروفة للنيكوتين عبر الفيب قد يؤدي إلى ارتفاع طفيف في ضغط الدم وازدياد معدل ضربات القلب. أما فقدان القدرة على الكلام أو القراءة فهو عرض عصبي يرتبط عادةً بحالات مثل السكتات الدماغية، أو اضطرابات التروية، أو نوبات الصرع، أو الهجمات القلقية الحادة، أو انخفاض مستوى السكر أو الأكسجين، وغيرها من الأسباب المعروفة طبيًا، وليس من بينها الفيب.
وبما أن فحوصات المستشفى – التي نعرف عنها فقط من كلام المريضة – كانت طبيعية، فإن الربط الطبي بين الفيب وهذه الأعراض ليس أكثر من استنتاج افتراضي غير مدعوم، ولا يعتمد على أي دليل سريري أو مخبري.
كيف نشأت العلاقة المزعومة بين الفيب والحالة؟
تستند وسائل الإعلام في مثل هذه القصص إلى أسلوب شائع يعتمد على استغلال الترتيب الزمني للأحداث واعتباره دليلاً على السببية. فإذا ظهرت أعراض بعد استخدام الفيب، يصبح الفيب تلقائيًا “المتهم الأول”، حتى لو لم يكن هناك أي دليل علمي.
هذا النمط يتضمن أيضًا تجاهل غياب التشخيص أو نتائج الفحوص، والاكتفاء بعبارات غامضة تثير القارئ، مع استخدام عبارات من نوع “يعتقد الأطباء أن…” دون أي توثيق. وهكذا يتحول حدث صحي غامض إلى قصة مثيرة وجاهزة للنشر، فقط لأنها تعزز قصة مسبقة تعتبر الفيب خطرًا دائمًا في كل وضع ممكن.
الاعتماد على هذا الأسلوب يؤدي غالبًا إلى خلق ذعر غير مبرّر لدى القراء، ويعطي الانطباع بأن حالات صحية نادرة أو غير مفسّرة ناتجة بالضرورة عن الفيب، في حين أن الطب لا يعمل بهذه الطريقة ولا يبني استنتاجاته على قصص شخصية دون بيانات.
هذا النوع من الأخبار يساوي “ترند”

السجائر الإلكترونية موضوع جذاب إعلاميًا، قادر على جذب القرّاء وزيادة التفاعل والمشاهدات. ولأن المنافسة بين المواقع الإخبارية عالية، تلجأ بعض المنصات إلى عناوين صادمة لا تعتمد على الدقة العلمية بقدر اعتمادها على عنصر الإثارة. إضافة إلى ذلك، تعتمد الصحافة على صياغة قصص مبسّطة وسريعة لا تعطي للأمور الطبية المعقّدة حقّها من التحليل والتوثيق. وهكذا يتم تقديم قصة مثيرة وغير دقيقة، تُزيد من المخاوف دون أن تستند إلى أي بيانات أو مراجعات علمية جدية.
وهذا السيناريو يتكرر حرفيًا مع قضية المؤثر السعودي التي تناولناها سابقًا على موقعنا. فقد تحولت نوبة صحية طارئة، لم يُعلن حتى الآن عن سببها الحقيقي، إلى موجة عناوين درامية تربط السجائر الإلكترونية بالانهيار الصحي بشكل مباشر، رغم عدم وجود أي تقرير طبي أو تشخيص رسمي يؤكد ذلك. النمط نفسه يُعاد اليوم مع قصة ليديا وارد: رواية غير مكتملة، غياب للأدلة، وتفسير جاهز يُقدَّم للقارئ بلا تحقيق.
المحتوى القصير على منصات التواصل الاجتماعي يلعب دورًا أكبر في تضخيم هذا النوع من السرد. مثال واضح على ذلك الفيديو المنتشر على إنستغرام، والذي تظهر فيه سيدة داخل غرفة مستشفى وتعلن بثقة أن رجلاً يبلغ من العمر 33 عامًا “تعرض لذبحة صدرية قاتلة وعدة جلطات بسبب الفيب”. لكن خلف هذا الادعاء لا نجد أي تقرير طبي، ولا اسم مستشفى، ولا نتائج تحاليل، ولا تشخيص من طبيب — لا شيء إطلاقًا سوى مشهد درامي ورسالة حاسمة تُحمّل الفيب مسؤولية حالة صحية معقدة دون أي دليل. المشاهد لا يعرف شيئًا عن التاريخ المرضي للرجل، أو الأدوية التي يستخدمها، أو عوامل الخطر التي يعاني منها، ورغم ذلك يُقدَّم الفيب كالمذنب النهائي بطريقة لا علاقة لها بالطب، بل بالبحث عن الانتشار السريع.
هذه المقاطع تُبنى على ردود فعل عاطفية وليس على المعرفة العلمية. ولأنها قصيرة ومباشرة وتبدو “درامية”، فإنها تنتشر بسرعة وتترسخ في ذهن الجمهور أكثر من أي دراسة أو تحليل طبي. ومع كل قصة جديدة من هذا النوع، تتكرر المشكلة نفسها: إثارة إعلامية قوية، تقابلها انعدام الأدلة العلمية، ما يجعل الجمهور عرضة لقناعة زائفة بأن الفيب هو سبب أي حدث صحي طارئ، حتى قبل أن يبدأ الأطباء التشخيص أصلاً.
خلاصة القول

قصة ليديا وارد ليست أكثر من رواية شخصية بلا وثائق ولا تشخيص، ورغم ذلك جرى استغلالها لبناء عنوان مثير يحمّل السجائر الإلكترونية مسؤولية فقدان القدرة على الكلام، بينما لا يوجد أي دليل طبي يدعم هذا الادعاء. الأعراض التي تعرضت لها كانت عابرة واختفت خلال ساعات، والفحوص جاءت طبيعية، ولم يُقدم أي طبيب تقريرًا يربط بين الفيب وما حدث.
هذا النوع من الأخبار يعكس مشكلة منهجية في التغطيات الإعلامية المتعلقة بالصحة؛ إذ يتم الاعتماد على قصص فردية غير موثّقة لتوجيه الرأي العام وصناعة انطباعات صحية خطيرة دون أي أساس علمي. وفي قضايا حساسة مثل السجائر الإلكترونية، يصبح واجبًا الفصل بين العلم وبين الروايات المثيرة التي لا تحمل قيمة بحثية أو طبية.
بهذه القراءة الدقيقة، يصبح واضحًا أن الربط بين الفيب والحالة المزعومة ليس أكثر من محاولة إعلامية لبناء علاقة سببية غير مثبتة، وأن التعامل المهني مع الصحة العامة يتطلب الاعتماد على الأدلة العلمية لا على العناوين الجذابة.





