في 31 أيار من كل عام، تطلق منظمة الصحة العالمية حملتها السنوية “اليوم العالمي للامتناع عن تعاطي التبغ”، وهي دعوة عالمية للتفكير بخطورة التدخين وتأثيره المدمر على الصحة العامة، وتحديدًا بين الفئات الشابة. أما شعار هذا العام 2025، فجاء بعنوان: “حماية الأطفال من تدخلات شركات التبغ”، في تحذير مباشر من ممارسات الشركات التي تستهدف الناشئة بأساليب تسويقية خفية.
لكن هذه المناسبة لا يجب أن تمر مرور الكرام دون تقييم صريح لفعالية السياسات المتبعة. فهل فعلاً تنجح هذه الحملات في الحد من التدخين؟ وهل يتم التمييز بين التبغ القاتل والبدائل التي توفر ضررًا أقل؟ وما هو مصير مَن لا يستطيعون الإقلاع الكامل؟ هذه الأسئلة لا يمكن تجاهلها.
أرقام صادمة من الأردن
بحسب المجلس الأعلى للسكان في الأردن، فإن أكثر من 53% من السكان ممن تبلغ أعمارهم 15 سنة فأكثر يتعاطون التبغ بجميع أشكاله، ويبلغ عددهم نحو 2.8 مليون شخص. من بين هؤلاء، يشكّل الذكور النسبة الأعلى بـ 71%، مقابل 29% من الإناث.
الأكثر إثارة للقلق أن 83% من المتعاطين بدأوا قبل سن 24 عامًا، بل أن 38% بدأوا التدخين قبل عمر 18، وهي مرحلة دراسية حرجة يفترض أن تُحاط بالحماية والتوجيه. وتشير الأرقام كذلك إلى أن 43% من المدخنين يستهلكون في المتوسط 22 سيجارة يوميًا، ما يعكس اعتمادًا مرتفعًا وخطرًا صحيًا متزايدًا.
رغم وجود قوانين تحظر التدخين في الأماكن العامة، إلا أن مظاهره ما تزال منتشرة، ما يدل على ضعف التنفيذ أو القبول المجتمعي بها، ويُظهر الحاجة إلى حلول جديدة.
السجائر الإلكترونية كبديل أقل ضررًا
في الوقت الذي تتصاعد فيه الأرقام وتحذيرات الصحة العامة، تبقى السجائر الإلكترونية، وهي البديل الأقل ضررًا، محاصرة في الخطاب الإعلامي والسياسات العامة. هذه الأجهزة، التي تعمل على توصيل النيكوتين دون احتراق، تمثل فرصة حقيقية لتقليل الضرر، خصوصًا لأولئك الذين لا يستطيعون الإقلاع عن التدخين كليًا.
لكن بدلاً من تنظيم استخدامها، غالبًا ما تُواجَه بسياسات تقييدية تشمل الضرائب المرتفعة والمنع، مما يدفع المستهلكين إما للعودة إلى السجائر التقليدية أو للجوء إلى السوق السوداء و منتجات مجهولة المصدر.
في الأردن، يبلغ متوسط الإنفاق الشهري على السجائر الإلكترونية نحو 35 دينارًا للفرد، بينما يصل الإنفاق على السجائر التقليدية إلى 78 دينارًا، وعلى أجهزة التبغ المسخن وأعواد التسخين إلى 14 و24 دينارًا على التوالي. هذا العبء المالي، خاصة في الأسر ذات الدخل المنخفض، يؤثر سلبًا على الإنفاق على الغذاء، الدواء، التعليم وحتى القدرة على الذهاب إلى العمل.
ماذا يحدث عندما يُحظر البديل
في نوفمبر 2024، كشفت الجمارك الأردنية عن مصنع غير مرخص لتصنيع سوائل السجائر الإلكترونية، يعمل خارج الإطار القانوني ويعرض المستهلكين للخطر. هذا الحدث لا يُعد استثناءً، بل نتيجة مباشرة لغياب التنظيم المتوازن للبدائل الأقل ضررًا.
عندما تُمنع الخيارات القانونية، يبحث الناس عن طرق أخرى. وهنا، تنتعش السوق السوداء، وتفقد الدولة القدرة على المراقبة، وتصبح المنتجات المتداولة خارج السيطرة من حيث الجودة والمحتوى.
لا تخلطوا بين النيكوتين والتبغ
واحدة من أكثر المغالطات شيوعًا هي التعامل مع النيكوتين وكأنه التبغ نفسه. النيكوتين، رغم كونه مادة تسبب الاعتماد، إلا أنه ليس العامل الرئيسي في الأمراض المرتبطة بالتدخين مثل السرطان وأمراض القلب. الخطر الفعلي يكمن في عملية احتراق التبغ، وما تفرزه من مواد سامة.
السجائر الإلكترونية توصل النيكوتين دون احتراق، ولهذا فهي تمثل تطورًا علميًا له دور في تقليل الضرر، لا يجب تجاهله أو مساواته بالسجائر العادية. محاربة النيكوتين دون فهم هذه الفروق يؤدي إلى نتائج عكسية تُفقد الجمهور ثقته في الخطاب الصحي.
نحو سياسات عادلة تراعي الأدلة العلمية
كي تنجح السياسات العامة في الحد من التدخين، يجب أن تنتقل من عقلية التحذير والمنع إلى عقلية التنظيم والتوجيه. لا يكفي أن نحظر، بل يجب أن نخلق بدائل مشروعة وآمنة. لا يمكن مطالبة الأفراد بالإقلاع الكلي دون توفير خيارات مخففة الضرر يمكنهم الاعتماد عليها في رحلة التحول.
ينبغي أن تستند هذه السياسات إلى الأدلة العلمية لا إلى التصورات المسبقة أو الضغوط السياسية. يجب أن توفّر سوقًا منظمة للبدائل، تحمي المستهلك من الغش التجاري، وتُخضع المنتج للرقابة، دون أن تعاقب من يسعى لحل أقل ضررًا.
كما يتطلب الأمر تغييرًا في الخطاب الإعلامي، بحيث لا يُصوّر جميع أنواع منتجات النيكوتين على أنها شر مطلق، بل يُشرح الفارق بين المنتج القاتل والبديل الممكن. وحده هذا النوع من التوعية قادر على إحداث تغيير حقيقي ومستدام.
خلاصة القول :
نحتاج في اليوم العالمي للامتناع عن التبغ إلى أكثر من مجرد شعارات. نحن بحاجة إلى مراجعة حقيقية لما نقوم به، ومدى فعاليته، والأهم من ذلك، للفرص التي نهدرها عندما نحارب البدائل أكثر مما نحارب التبغ نفسه.
إذا أردنا مستقبلًا خاليًا من التبغ، فيجب أن نكون واقعيين، وعلميين، و منفتحين على كل خيار يقلل من الأذى ويحمي الأرواح.
تصحيح المفاهيم الخاطئة حول النيكوتين من شأنه أن يعود بفائدة كبيرة على الصحة العامة